هل أنا قادرة على القتل ؟
جاءت صدمتي الأولى عندما أطلقوا النار علينا ونحن نتظاهر سلميًا تمامًا. كانوا هناك يشبهوننا في كل شيء إلا الحلم. يتحدثون لغتنا وبعضهم أبناء مدينتنا. كان عليّ أن أقبل أن القاتل إنسانٌ مثلي مثله، ولربما كنا حتى البارحة نرتاد سويًا الأماكن نفسها ونرقص على الأغاني ذاتها، يعشق ربما مثلي قلعة حلب وله حبيبة تعرف عليها في مقهى للجامعة مثلًا. كيف استحال فجأة عندما أتاه أمر من السلطان قاتلًا؟ من أين جاءته تلك الجهوزية للقتل؟ كيف يستطيع إنسان لا يبدو أنه قد تكسّب من هذا الحاكم شيئًا أن يستحيل إلى آلة للقتل هكذا؟ كنت أريد أن أعتقد أنني أفضل من ذاك الوحش، أن لا أيديولوجية مهما كانت ولا أحد سيدفعني يومًا لفعل مشابه.
ألحّ السؤال مرة أخرى طبعًا عند قتل والدتي، ومجددًا عندما كنت في التحقيقات. حينها رغبت لو يموت المحقق، خصوصًا بعدما هدد بإيذاء عائلتي. لم يكن بإمكاني أن أحكم ترى هل سيكون العالم بحال أفضل لو رحل هذا الشخص عنه؟ تمنيت أن يموت وخجلت حتى من هذه الأمنية، فهل أناي الجديدة تؤمن أن موت البعض هو رحمة للبشرية؟ وأنه ليست كل حياة بحد ذاتها “مقدسة”؟ وأن قتل شخص ما قد ينقذ الآلاف؟ وبالطبع تمنيت مرارًا منذ حينها أن يموت بشار الأسد، ولربما حلمت بذلك عدداً من المرات. هل لعبت دور الإله في رأسي في اختيار من يحق له الحياة ومن يستحق الموت؟ بالتأكيد! كنت محاطة بالأبطال الجميلين جدًا وكانوا يتساقطون قتلى بسبب عنف من عليّ أن أؤمن بحقهم بالحياة. كانت المعادلة صعبة جدًا. كم تغيرت! وكم نضجت تلك الفكرة الرومانسية الساذجة عن تغيير العالم بالحب!
لكن ذاك كله كان أقل إلحاحًا من العيش على الخط الأول، نرى الجيش من هناك. يبعد خطوات عن بيوتنا، نختار تلك المواقع لأنها اٌقل عرضة للقصف بالطيران. ذاك الجيش الذي يقصفنا ليل نهار، لهم حاجز قريب جدًا، يحتسون فيه الشاي ويلقون السباب علينا عبر أجهزة التواصل “التوكي ووكي”، ندعوها بحلب “القبضة”. كانت المزحة السوداء المعتادة في بيتنا تتعلق بماذا سنفعل لو اقتحم الجيش المنطقة، وككل شيء مرعب كان علينا أن نواجهه بالمزاح حتى يصمت صوت الخوف. فذاك يوصينا ألا نوقظه إذا اقتحم الجيش وآخر يفكر بالقفز من الشرفة! أمازحهم بأنني سأدعي بأنهم قاموا باختطافي إذا اقتحم الجيش المكان. أجاب أحد الأصدقاء مرة بأنه سيستل سلاحًا ويقاتلهم حتى يموت، وأجاب آخر بأنه يفضل أن يفجر نفسه على أن يأخذوه حياً يرزق – هذا ما تفعله فينا صور الموت تحت التعذيب. أجبت أنا بصوت خافت: أنا لا أعتقد أنني أستطيع أن أرتكب فعل القتل. وصمتوا جميعًا، ثم ضحكوا على “تعقيد الصياغة”.
قال لي أحدهم: أشو خيتو؟
أعدت الجواب بثقة من يعتقد بأخلاقية قراره: لن أقتل!
وبدأ النقاش الذي امتد ساعات حتى قال لي أحدهم: ماذا لو كان الجندي سيقوم بقتلك؟
– سأموت إذًا. أفضل أن أكون الضحية على أن أكون القاتلة.
– وماذا لو كان سيقوم بقتلي أنا؟ ماذا لو كنت تستطيعين إنقاذي؟ ماذا لو كان سيتوجه من منزلنا ليقتل عائشة “طفلة الجيران التي تدق على بابنا يومياً لتأخذ منا الزجاجات البلاستيكية. كانت أقصر من ألحظها عند النظر من فتحة الباب”
لم أعد أعرف إن كنت قادرة فعلاً على استلاب حياة كائن حيّ آخر، ولم أعد واثقة بأن عدم قدرتي هذه ليست، بشكل آخر، مساهمةً في القتل. لقد تغيرت. لقد تشوهت. هذا تفسير محق ربما.. أو ربما فقط لقد نضجت.
وتوالت أحداث العنف، سكود، براميل، صواريخ، قذائف، أصدقاء تستشهد تحت التعذيب. ومع كل قصة أتذكرها أو يمنعني مخي “الغبي” من تذكرها ويكبتها هناك في مكان ما، كان يقيني بأنني شخص لا يقتل أو لا يرغب بالقتل يتضاءل تدريجياً. وبدأت داعش بالانتشار بالمحرر، وبدأت باختطاف الإعلاميين تباعًا. ركضنا حينها إلى الأصدقاء المسلحين طلباً للحماية. كان تناقضاً جوهرياً مهماً: نحن أردنا تفوقنا الأخلاقي الذي يعتمد بشكل كبير على عنف الآخرين، لا على اللاعنف نفسه. مازلت حتى اليوم لا أفهم هذه الحرب ومعادلات القتل فيها؛ هذه الحرب التي لست أدري إن كانت تخرج أقبح ما فيك أم أنها تغيرك. ذاك الذي سرق بيت جاره بعد أن نزح، لم يكن يعتقد أنه سيفعلها لولا الحرب. ذاك الذي يتمنى موت كل الذين لا يشبهون طائفته لم يكن يدرك أن في داخله كل ذاك الحقد.