مدوّنات

عندما استشهد مهنّد..

66

كانت الساعة تقترب من التاسعة إلا ربع وكنت أجلس على ذاك المقعد المثبت في مشربية بيت أهلي القديم في بلدة القدس العتيقة واحتسي كوباً من القهوة وحاسوبي المتنقل يعمل أمامي في صفحة أتصفح الفيس بوك والصفحة ثانية أشغل بين الحينة و الأخرى أنغاماً تركية والهدوء يسود المنزل فلا أحد غيري به.

فجأة، جاء صوت طلقات رصاص متتالية وأصوات أطفال في زقاق الحارة تطلق صرخات وضجيج “عملية، طعنهم، طخوه، عربي، مستوطن، مات” !!

أمسكت بهاتفي النقال وفتحت تطبيق Zello – وهو تطبيق يجعل الهاتف اشبه ما يكون باجهزة المخشير القديمة – وفي ضغطة قوية على قناة “إعلام القدس” خرجت باشارة مستعجلة “صوت اطلاق نار في شارع الواد وانباء تتحدث عن عملية طعن” وجاءت الاشارة ترد ” فش منه، ما سمعنا، مش صح “كررت الاشارة” عملية طعن في شارع الواد واصابة مستوطن على الاقل ” مرة أخرى إشارات تكذيب

بسرعة كالبرق ارتديت جلبابي وحجابي وعلى كتفي علقت كاميرتي وحملت في يدي عدسة 75-300 .. وذهبت أركض وإذ به على بعد أمتار قليلة من المنزل، حواجز حديدية وعدد من المسعفين وجسدين هامدين دون أي حركة وضباط إسرائيلين يجتاحون المكان، وليس ببعيد جثة ثالثة لم أكد أراها لولا التدقيق في المكان.

اذاً هي عملية طعن وليست شائعات أو أكاذيب كما قال البعض وأتهمني، مستوطنان رأيتهما بعيني ملقين ارضاً يحاولون اسعافهم والشهيد عطره في المكان قد وصلني ورأيت جثمانه من بعيد .. للوهلة الأولى لم أتذكر أن بحوزتي كاميرا وعدسة يمكنني أن أصور بها المكان ولكن بيدي هاتفي أمسكت به والتقطت أول صورة وأرسلتها عبر الفيس بوك لا أدري أين أو لمن ذهبت ولكن سرعان ما سمعت صوت يقول “صحافة صحافة احكيلك شو صار؟!” تذكرت حينها كاميرتي وبدأت بالتصوير ولكنها قنبلة الصوت التي أبعدت قدماي من الأرض للسماء لا أدري كيف قفزت لاتفادى إصابة مباشرة، فقد وجّهها أحد القوات الخاصة بشكل مباشر تجاهي لإبعادي.

سيارتي إسعاف وصلوا إلى المكان وأجهزة طبية بدأت طواقم الاسعاف تنزلها للمكان، جاء الصوت “بيان الشب استشهد .. بيان طلعي خبر الشب استشهد” بعدها بقليل جاء مسعف وهو يضبط انفاسه بصعوبة” بيان المتصاوبين 3، ومنعونا نقرب عليهم الجيش ضربنا لأننا عرب وبس المسعفين اليهود مسموح يقربوا ويعالجوا “

أحاول أن أفهم منه التفاصيل “طيب الشب شو وضعه؟ هو من البلد؟ كم عمره تقريباً؟” يجيب عمره بحدود 20 سنة وشكله مش “لم يكمل جملته لأن صوت القنابل كان أعلى وجعلنا نقفز مرة أخرى باتجاه السماء .. نادى “بيان ديري بالك مش شايفين الفضا وأنا لازم أروح”

مرة أخرى أنا لوحدي بين العشرات من الجنود ورجال المخابرات ورجال الفحص الجنائي وسيارات الاسعاف وشظايا القنابل الصوتية متطايرة هنا وهناك.

الهاتف لم يسكت حينها، بعضها لأرقام لا أعرفها تريد تفاصيل حول العملية، والكثير منها للأهل والأصدقاء منهم من يطلب مني العودة للبيت ومنهم من يطلب مني الحذر حتى وصلت لمرحلة جعلتني أغلق هاتفي فظن بعضهم بانه تم اعتقالي.

نقلت الأجساد جميعها عن الأرض إلى جسده الطاهر بقي يتمدد قبالتي وأنا أكاد أن أراه من بين السيارات والقوات، الحل اذاً أن اتخذ اتجاه أخر للتصوير .. “عقبة البطيخ” هكذا تعرف هذه الطريق سأسلكها رغم ظلامها الحالك عسى أن أصل لنقطة أقرب ما أن صعدت أولى الدرجات حتى جاءت قنبلة صوتية من الأعلى جرحت إحدى شظاياها قدمي اليمنى فعدت أدراجي مرة أخرى أفكر في طريق للوصول لهناك لأرى الصورة أوضح وأقرب.

عقبة التكية هي الطريق الثانية التي قد توصلني إلى هناك، ذهبت مسرعة إلى هناك وإذ بالجنود يغلقون الطريق- جعبة شو بتعملي هون ؟؟ – بصور! عندك مشكلة – يلا جعبة على الدار ما بدنا مشاكل – بدي اطلع من عقلك التكية – ممنوع الطريق مسكرة – طيب بدي أروح ع الدار – جعبة انا بقول التكية مسكرة – ماشي ماشي بدي أروح ع الدار كان هذا الحوار بيني وبين أحد ضباط الاحتلال والمتواجد دائماً على ابواب الاقصى، أكملت طريقي تجاه عقبة التكية واذ بالجنود يقفون صف واحداً يمنع المرور من الطريق لاي سبب كان وجاء صوت احدهم يقول “جعبة صح ؟؟ حكولنا انك نازلة ع الدار وممنوع تمري من هون”.

عرفت أنه لا أمل من الوقوف أمامهم قعدت أدراجي إلى حيث كنت ذات الضابط قال “شو جعبة أنتي بتحبي المشاكل ما بدك تروحي ع الدار بالمنيح يعني؟ ” كأني لم أسمع شيء أكملت طريقي ووقفت أنتظر علهم يقتربون بالجثمان إلى هذه الزاوية، لو يمكن لذاك البسطار أن يقف بعيدا خطوة لليمين.

مرة أخرى قنابل الصوت تأتي لابعادي وتفريق ٦ شبان وقفوا يتفرجون كحالتي … الى ان جاء الضابط وبدأ بالدفع بقي يدفعني حتى اوصلني للحاجز قرب باب المجلس اخرجني خلف الحديد واعطى اوامره ” ما تخلوها تفوت من هون واذا ما روحت انتو روحوها عنا” بقيت عقبة الخالدية ربما تكون النجاه الوحيدة للعودة حيث كنت … ولكنها ايضاً مغلقة.

لا سبيل أصبحت الآن محاصرة من عدة زوايا ولا شيء أمامي سوى باب المنزل فعدت إليه وكان حاسوبي المحمول وكوب القهوة ما زال ينتظرنا و”الفيس بوك” يضج بخبر (استشهاد شاب بعد تنفيذه عمليه طعن في طريق الواد بالقدس القديمة) يرافقه (اعتقال الصحفية بيان الجعبة تارة واصابة الصحفية تارة ـخرى) ، وتلك الصورة التي لا أعرف لم أرسلتها حينها قد اجتاحت المواقع والصفحات الاخبارية بل أيضاً قد كانت صورة رئيسية مرافقة للخبر في القنوات الفضائية.

نعم لقد عدت إلى المنزل في كاميرتي عدد من الصور التوثيقية التي قد تبقى أو تحذف ولكن في ذاكرتي صورة الجثمان الطاهر على الأرض التي لم ولن تنتسى.

فنالني من الشهيد مهند الحلبي شرف أنّي أسكن في الشارع الذي نفذ به عمليته، وشرف الانفراد بتغطيه خبر استشهاده، ومن أشهر قليلة نالني شرف لقاء والدته في باحات المسجد الأقصى.

إلى الأعلى