متابعات

مهرجان السينمات المُختلفة في باريس

صلاح سرميني ـ باريس
قرابةٌ سينمائيةٌ وطيدةٌ تجمع بين "المهرجان الدولي للسينما الشابة" الذي كان ينعقد في مدينة "إيّير" (Hyères) في السبعينيّات (من عام 1965 وحتى 1983)، و"مهرجان السينمات المُختلفة، والتجريبية" الذي تأسّس في باريس عام 1999، (سنةٌ واحدةٌ فقط بعد إحياء "جماعة السينما الشابة" 1998)، والإثنان أسّسهما الراحل "مارسيل مازيه" أحد أقطاب، ومناضلي السينما التجريبية في فرنسا، وفي الوقت الذي مهدّ المهرجان الأول معرفتي بالسينما التجريبية عندما تابعتُ دورته الأخيرة عام 1983، ساهم الثاني في تكريس علاقتي مع هذا النوع المُبهر من الأفلام.
كانت الصدفة وحدها، مع الفضول، ورغبة الإكتشاف، وسهولة الحصول وقتذاك على دعوةٍ من أيّ مهرجانٍ سينمائيّ فرنسيّ هي الأسباب التي قادتني إلى "المهرجان الدولي للسينما الشابة"، هناك تعرفتُ على أفلامٍ أبهرتني، ولم أكن أفهمها بعد، كما سمحت لي باللقاء مع معظم مبدعي السينما التجريبية، وجعلتني أتساءل عن طبيعية تلك الأفلام حتى الإنغماس تماماً في المشهد السينمائي التجريبي الذي ألهاني، وأبعدني عن أفلامٍ يُقال عنها : تجارية، نمطية، تقليدية، مُهيّمنة، سائدة،.....وقادني إلى تظاهرات، ومهرجانات أفلام نُصنفها : طليعية، تجريبية، بديلة، مختلفة، موازية،...

في عام 1982 إشترك الثنائيّ "فريدريك دوفو، وميشيل أمارجيه" في تأسيس، وإدارة مهرجانٍ في باريس تحت عنوان "المهرجان الدولي لطليعة التصوير الفوتوغرافي، السينما، والفيديو" الذي إستمرّ حتى عام 1986.
في عام 1983 توقف "المهرجان الدولي للسينما الشابة" في "إيير"، ولكن، تكاثرت المُبادرات المؤسّساتية، وإنتشرت السينما التجريبية في كلّ مكان، ومن ثمّ جاء "مارسيل مازيه" مع مجموعةٍ جديدة، وأحيا ذاك المهرجان من جديد، بإعادة الحياة أولاً إلى"جماعة السينما الشابة" عام 1998، ومن ثمّ تأسيس "مهرجان السينمات المختلفة" في باريس عام 1999، وعلى الرغم من نخبويته، وإهتمامه بسينما لا تتمتع بجماهيريةٍ واسعة مقارنةً مع المكانة التي تحظى بها الأفلام الروائية، والتسجيلية، تمكن هذا المهرجان من التواصل بكبرياءٍ ووصل هذه السنة إلى دورته الـ 14 التي سوف تنعقد خلال الفترة من 11 وحتى 16 ديسمبر 2012، وما كان له الإستمرار بدون الدعم الحكوميّ طبعاً، والأهمّ، فضول، وحماس جمهوره، ويجب الإعتراف بأنّ هناك جمهور لكلّ أنواع السينما من أقصاها شعبيةً إلى أكثرها نخبويةً، وهنا تكمن عظمتها.
منذ عام 1999، تخيّر المُنظمّون بأن يكون مهرجاناً إنتقائياً، ومتشدداً، متنوعاً جغرافياً، وموضوعاتياً، ولهذه الأسباب، أصبح طواعيةً موعداً رئيسياً لعموم ممثلي السينما التجريبية في فرنسا، والعالم، وكان، وما يزال المهرجان الأمثل الذي تتقاطع فيه كلّ الأشكال السينمائية المختلفة، وتجسّد هذا الطموح من خلال برامج تنافسية تغطي طيفاً واسعاً من الروائي إلى التسجيلي مروراً بالأفلام التجريدية، ومن أجل الدورة الـ 14 توجه الإهتمام بالتحديد نحو المكانة الإبداعية التجريبية في شرق أوروبا من خلال سهرتيّن تمّ تنظيمهما بالتعاون مع المركزين الثقافييّن التشيكي، والصربي، بالإضافة إلى 6 برامج نتعرّف من خلالها على سينمائييّن يُشكلون دعامة التيمة الرئيسية لهذه الدورة.

المسابقة الدولية
"تمنح المسابقة الدولية تقيّيماً للإبداع السينمائي الحالي، وتدعو المتفرج إلى التفكير بكلّ عملٍ في علاقته مع التقاليد التي تُواجه السينما التجريبية، والتي نناضل ضدّها كي نؤكد على الأصالة، وننتزع الأفلام واحداً واحداً من الرفاهية، والعادات، وتكرار الصيغ المُستهلكة، والتي تهدد بتعطيل القوى الإبداعية، ومتعة المشاهد"، هكذا كتب "فريدريك تاشو" مدير المهرجان.
وُفق المعلومات التي حصلتُ عليها مباشرةً من "دافنيه هيريتاكيس" مسؤولة التواصل، تلقت الإدارة حوالي 950 فيلماً، وتوقفت إختيارات المسابقة الدولية عند 57 عملاً يُعرض معظمها للمرة الأولى في فرنسا، وتتوزّع في 9 برامج تتضمّن أفلاماً تجريبية مُنجزة سينمائياً، أو فيديوياً خلال العاميّن 2011/2012، وتمنح لجنة تحكيم دولية عدداً من الجوائز تقترحها مؤسّساتٍ متخصصة بالسينما التجريبية.
جاءت الأفلام من : كندا، فرنسا، البرازيل، المملكة المتحدة، كرواتيا، البرتغال، الكونغو، الولايات المتحدة، هولندة، ألمانيا، إيطاليا، روسيا، بولونيا، هنغاريا، النمسا، اليونان، فنلندة، تركيا، هونغ كونغ، ليتوانيا، إيران، بلجيكا، إسبانيا.
ومن الواضح، بأنّ السينما العربية غائبة تماماً عن هذا المهرجان على الرغم من ثوراتٍ يُفترض بأنها ساهمت في "تثوير السينما" (السينما الثورية ليست توثيق الثورات، أو الحديث عنها)، والأسباب، بإعتقادي، ندرة الأفلام العربية التجريبية (الثورية) من جهةٍ، أو لم يسمع أحدٌ من السينمائيين العرب عن هذا المهرجان على الرغم من سنواته الطويلة، ورُبما أرسل البعض أفلاماً لم يتمّ إختيارها، لأنها لا تتناسب مع الخطة البرمجية للمهرجان، أو لا تتوافق مع مفهوم التجريب المُتعارف عليه من طرف المُنظمّين "جماعة السينما الشابة"(المُتشددين ....سينمائياً).

تتكوّن لجنة تحكيم المسابقة الدولية من :
ـ فاسيلي بوريكاس (اليونان) ـ مخرج، ومُبرمج.
ـ ماشا غودوفانايا (روسيا) ـ سينمائية، فنانة تشكيلية، أستاذة جامعية، ومُبرمجة.
ـ إيمانويل لوفران (فرنسا) ـ سينمائي، مدير جمعية "Light Cone".
ـ ناتاشا بيتريشين ـ باشيليز(سلوفينيا) ـ ناقدة، ومنظمة معارض.
ـ روبيرت تودّ (الولايات المتحدة)، رسام، سينمائي، وأستاذ جامعي.
ـ جوانا فوود (فرنسا) ـ سينمائية.

أحداث جانبية، وأفلام من الشرق

ثلاثة أحداثٍ جانبية تسبق إفتتاح المهرجان :
ـ برنامجٌ يقدمه "المركز الثقافي التشيكي" بعنوان (الطليعة التشيكية 1930-1990) التي تتميّز بسمتيّن، من جهةٍ، تطورت بشكلٍ متقطع تعود أسبابه إلى التحولات الإجتماعية، والتاريخية التي حدثت في أوروبا الوسطى في القرن العشرين، ومن جهةٍ أخرى، عانت من بعض التأخير بالمُقارنة مع حركاتٍ مماثلة في أوروبا، وخارجها.
وفي هذا البرنامج، سوف يتابع المتفرج خطى الأفلام التي ظهرت إلى النور إنطلاقاً من حاجةٍ شخصية للتعبير، أو حفزتهم رغبة البحث عن طرائق سينمائية أصيلة.
ـ برنامجٌ  آخرٌ يقدمه "المركز الثقافي الصربي" بعنوان (تقليدٌ فيلميّ، وتجديدٌ سينمائي، نظرةٌ جديدة) يجمع أعمالاً لمخرجين شباب من صربيا (2007-2011).
أكانت هذه الأفلام، والفيديوهات قد أُنجزت في إطاراتٍ "رسمية" ـ مثل أكاديمية الفنون الدرامية ـ، أو أكثر "أصالةً" ـ مركز الفيلم الأكاديمي ـ ، تمّ إنتاجها من طرف مؤسّساتٍ حكومية، أو أهلية، أخرجها محترفون، أو هواة، عن طريق الشريط الخام، أو رقمية، هي، في كلّ الحالات، تقاوم أيّ نمطية في الفنّ.
بديلة، أو كلاسيكية، تُشكل جميعها جزءاً من تاريخ السينما، حيث نجد اليوم في صربيا تاريخاً جديداً بصدد الكتابة، والموجة القادمة يُمثلها : آنا يليك، أندريس دينيغري، بوشكو بروستران، إيسيدورا إيليك، ماني زيوديلوفيتش، ميلوش توميك، أوغنيين غلافونيك، ستيفان إيفانيجك،....وغيرهم.

ـ الحدث الجانبيّ الثالث، مختلفٌ بإمتياز، سهرةٌ سينمائيةُ في بيت المخرج  الفرنسي "بيير ميريجكوفسكي".
هو واحدٌ من أعضاء "جماعة السينما الشابة" (مع أنه تخطى مرحلة الشباب)، ولأنه يتمتع بموقعٍ راديكاليّ، يقترح بأن ينتقل البعض من جمهور المهرجان الأكثر راديكاليةً إلى الغرفة التي يعيش فيها كي يعرض لهم بعضاً من تحفه على شاشة جهاز الكمبيوتر، ومنها فيلمه المُعنوّن "ما العمل ؟" من إنتاج عام 2007، ويُمتعهم بأفلامٍ أخرى يقترحها وُفق تصويت "اللا أغلبية".
بالنسبة لي، وفي يوم من أيام الضجر الروائي، حصلتُ على نصيبي من هذه الأفلام في جلسة مشاهدة (تحليل نفسي)، وراقبتُ مرةً تصوير أحد مشاهد فيلم من أفلامه "الثورية الحالمة"، وكتبتُ يوماً محتفياً بتجربة هذا المخرج الذي وصفتُه سلوكاً، وتفكيراً بـ (غودار السينما التجريبية)، هو الذي ينفي دائماً تجريبية أفلامه، ويمكن إعتباره الأكثر كرهاً لها من أيّ متفرج عاقل، ومن المفيد العودة لاحقاً إلى هذا السينمائي الذي تنضح أفلامه ثرثرةً، زعيقاً، وشعارات.

أما التيمة الرئيسية للمهرجان، فهي بعنوان "FOCUS EST"، تظاهرةٌ تُسلط الأضواء على أفلامٍ، ومخرجين من دول أوروبا الشرقية سابقاً :
أرتوراس يفدوكيموفاس(ليتوانيا)، سفيتلانا باسكوفا(روسيا)، أرتور أريستاكيسيان(أرمينيا)،
الأخوين بوهاروف(هنغاريا).
وأفلاماً من CineFantom، مؤسّسة تنتج، وتوزع، وتسلط الأضواء على السينما المُوازية في موسكو.

جنس، سياسة، وسوبر 8
في إطار العروض الخاصة، يقدم المهرجان برنامجاً بعنوان (STRIGIFORME) ـ وتعني "طيور الليل" ـ يجمع الأعمال الجديدة للسينمائيين أعضاء "جماعة السينما الشابة" الذين شاركوا في لجنة الإختيار، أو التحكيم، ولا يحقّ لهم المُشاركة في المسابقة.
وسوف يُنشط السينمائيّان "كولاس ريكار"، و"أليس هييت" عرضان تحت عنوان "جنس، سياسة، وسوبر 8".
كما يعرض أحد أفلام المخرجة "لورانس شانفرو" التي رحلت هذه السنة، ويُخصص عرضاً تكريمياً مُهدى إلى روح السينمائي "مارسيل حنون" .

وداعاً "مارسيل مازيه"

طوال أيام المهرجان سوف تحوم روح الراحل "مارسيل مازيه"، وفي سهرة الختام يستحضرها المُنظمّون عن طريق العرض التكريميّ المُخصص لإحياء ذكراه بعنوان " Noc Marcel-a " (تُنطق "نوتش مارسيللا")، وهي مناسبة لإعادة إكتشاف أفلاماً من يوغوسلافيا السابقة برمجها في "المهرجان الدولي للسينما الشابة" عام 1983، طريقةٌ مُثلى لإطالة عمله مبرمجاً، ومكتشفاً على الرغم من غيابه المؤلم.
حدث ذلك بداية الثمانينيّات في منتصف ليلة صيفية تاريخية، عندما إكتشف السينما الطليعية المُستقلة في يوغوسلافيا السابقة، وفي عام 1983 خصص لها، وبشكلٍ خاص تلك المُنتجة في إطار نادي سينما مدينة "سبليت"، برنامجاً في "المهرجان الدولي للسينما الشابة" في "إيير".
اليوم، لا أمتلك أكثر من الكلمات إعترافاً بالجميل لهذا الرجل الكريم، والطيب الذي كان من أوائل المُتحمّسين لنشر، وعرض، وترويج السينما التجريبية في البلدان العربية، هو الذي قدم لي كلّ التسهيلات المُمكنة من أجل أول برنامج نظمته عن السينما التجريبية، وكان ذلك في الدورة الثانية ل"مهرجان الشاشة العربية المُستقلة" التي إنعقدت في الدوحة عام 2001، وتواصل التعاون معه في تنظيم تظاهرة أكبر حجماً بمناسبة الدورة الثانية ل"مسابقة أفلام من الإمارات" في أبو ظبي عام 2003، وبعدها لم تتوقف مساهماته، ودعمه حتى قضى عليه المرض، وأجبرنا القدر بأن نُتمتم في داخلنا :
 ـ وداعاً "مارسيل مازيه"، السينما التجريبية مستمرة، ومزدهرة.

قد ينال إعجابكم