نقد سينمائي

عين على أفلام الاوسكار التسجيلية (2)

محمد موسى من أمستردام

خمسة عشر عاما تفصل بين زمن عرض الجزء الاول، فيما سيعرف لاحقا بسلسلة ( الفردوس المفقود) التسجيلية، والجزء الاخير منها، والذي عرض العام الفائت وحمل عنوان ( الفردوس المفقود..الأعراف )، ورشح أخيرا للمنافسة على جائزة الاوسكار لافضل فيلم تسجيلي، والتي ستعلن نتائجها النهائية في السادس والعشرين من شهر فبراير الجاري. العقد والنصف من السنوات الذي يفصل بين بداية المشروع ونهايته تخلله فيلم آخر، هو الثاني في التسلسل الزمني وعرض في عام 2000 تحت عنوان ( الفردوس المفقود.. الأكتشاف).
لذلك ليس غريبا ان يبدأ الجزء الثالث بالاحتفاء بمنجز المشروع السينمائي التسجيلي، بتقديمه مشاهد ارشيفية من الجزئيين السابقين، وعرض مشاهد خاصة لشخصيات القضية الشهيرة التي يتناولها الفيلم، وهي تعلق على ما بعض كشفته تلك السلسلة، والتي تحولت الى احدى القوى المؤثرة في مسار المأساة التي تسجلها، وهو الامر الذي يؤكده كثر من خلال مقابلات يقدمها الفيلم باعتزاز واضح وبدون تحفظ.
تركز الاجزاء الثلاثة من المشروع التسجيلي التي تقف خلفه قناة (HBO) الامريكية، على جريمة بشعة وقعت في عام 1993، اذ تم اختطاف 3 صبيان، لم يتجاوزوا الثانية عشر من عمرهم، اثناء لعبهم في مدينة مينفس الامريكية، ليعثر عليهم بعد ايام مقتولين بوحشية في احدى الغابات القريبة و بعد ان تم اغتصابهم. لا تضيع الشرطة الامريكية الكثير من الوقت في العثور على الجناة ( او هكذا بدت الامور وقتها)، فتقبض على 3 شباب وتوجه اليهم تهم القتل ويرسلون الى السجن مدى الحياة.
رغم الاحكام الصريحة، والادلة التي كانت تشير الى تورط الشباب الثلاث في الجريمة، الا ان ملابسات وثغرات صغيرة في القضية أثارت فضول الاعلام الامريكي والمخرجان الامريكيان جو برلينغير و بروس سينفسكي، اللذان يقفان خلف سلسلة ( الفردوس المفقود ) التسجيلية، ليبدئا البحث عن الحقيقية بعيدا عن "يقين" المحكمة الجنائية الامريكية. فالاعلام التقط سريعا علاقة الطقوس الغريبة التي كانت تمارسها المجموعة التي ينتمي اليها المتهمين الثلاث، وحملة الكره التي تعرضوا لها في مجتمعهم المتألف من البيض الفقراء المهمشين. كذلك اهتم الاعلام وقتها بنباهة اثنين من المتهمين، اثناء المحاكمة، والتي اثارت ردود افعال قوية، حتى من داخل الوسط الفني الامريكي، اذ كشف النجم جوني ديب في مقابلة تلفزيونية عرضت قبل اعوام، بانه كان مثل احد المتهمين يلبس الازياء الغريبة السوداء، ويسمع موسيقى تعرف بموسيقى الشيطان، وانه كان يواجه الكره في مجتمعه الصغير عندما كان بعمر المتهم.

لكن الاهتمام الاكبر بالحادثة والمشتركين فيها، تعاظم بعد الفيلم التسجيلي الاول والثاتي، وهو الامر الذي اكده الامريكيون العاديون الذين تطوعوا بعد سنوات من الحادثة للضغط على المحاكم الامريكية لفتح القضية مجددا. حتى الشابة الامريكية الجميلة والتي شاهدت الفيلم الاول من السلسلة على شاشة التلفزيون في شقتها في مدينة نيويورك، كشفت في لقاء مع فريق الفيلم، بان المشروع التسجيلي هو الذي دفعها لكي تكرس سنوات من حياتها للقضية، الامر الذي قربها من احد المتهمين عاطفيا، ليتزوجا في خطوة اغضبت عوائل الاطفال الضحايا وقتها.
ليست "كاريزما" المتهمون وحدها هي التي ستغذي جهود المدافعين عن برائتهم، فهناك ادلة لا يستهان ابدا مرت بدون بحث جدي في محاكمتهم الشهيرة في عام 1994. فالمشروع التسجيلي يوجه الانتباه الى زوج ام احد الاطفال الضحايا، وطباعه الغريبة والعنف الذي يكتنف حياته الخاصة، حتى انه، اي زوج الام هذا، يفقد تعاطف اهل الصبين الآخريين، الذين يوجهون اتهامات علنية له بقتل الاطفال الثلاث، خاصة انه لم ينجح في اثبات مكان وجوده وقت حدوث الجريمة. كذلك لم يتم الكشف عن اثار للحامض النووي لاي من المتهمين في جثث الضحايا.
يسجل الجزء الآخير من السلسلة، النشاط المتواصل لخليط متنوع من الناس سخروا اوقات طويلة من السنوات الاخيرة للبحث عن مثالب جديدة في حكم القاضي الامريكي، فينقل مثلا مؤتمرا لهؤلاء عقد قبل سنوات للقضية، كما يرافق مجموعة منهم في زيارتهم للمتهمين في سجنهم، ويخصص اوقاتا لزوجة احد المتهمين، والتي نالها كثير من النقد والتجريح لزواجها بمحكوم بقضية، تعد في عرف الاجرام، الاكثر قساوة.
تصل قضية "مينفس" الى منعطف غير متوقع، فالمحاكم الامريكية توافق على اعادة فتحها وبعد سنوات من الطلبات التي كانت تواجه بالرفض، لكنها تعقد اتفاقا غامضا، بانها ستقوم باطلاق سراح المتهمين، بحساب السنوات التي قضوها بالسجن، اذا اعترفوا بجريمة قتل الصبيان الثلاث. يوافق المتهمون على مضض، لان اعادة فتح القضية ومناقشتها على ضوء ادلة جديدة، سياخذ سنوات طويلة، سيقضونها في السجن، دون ضمانات اطلاقا بان المحكمة ستصل للجاني الحقيقي.

امام كاميرات التلفزيون والصحافة، يعترف المتهمون بالجريمة مع التاكيد بانهم ابرياء وبان خطوتهم هذه لتسهيل الامر للجميع. يخرج الشباب الثلاث، والذين كبروا امام عدسات المشروع التسجيلي الامريكي، الى العالم الواسع، يركبون بعجالة السيارات التي كانت بانتظارهم، لتنطلق السيارات بعيدا عن فضول الكاميرات.
يستعيد الفيلم بمشاهدة الختامية الاوقات الطويلة التي قضاها المخرجان برفقة المتهمين الثلاث، وكان الفيلم بمشاهده تلك قد وصل الى محطته الختامية، وعليه يودع بصورة شخصية تلك السنوات باستعادتها كلها، بصور فوتغرافية احيانا للذين يقفون خلف الكاميرا واولئك الذين يقفون امامها. كلاهما نضجا وبان عليهما التقدم في العمر، وخفت الحماس والشباب الذي ميز صور السنوات المبكرة الاولى التي اعقبت الجريمة. هي مشاهد "خلف الكواليس" للمشروع التسجيلي. لكن مهلا، من الذي قتل الاطفال الثلاث اذن ؟ وهل هذه حقا نهاية الرحلة الطويلة للسلسلة التسجيلية، ام ان عودتها ترتبط باكتشاف الجاني او الجناة؟ لا يجيب الفيلم على كل هذه الاسئلة.
يحمل عنوان الجزء الثالث من سلسلة ( الفردوس المفقود)، وصف ( الاعراف) الماخوذ من الثقافة الدينية. هي المكان الذي يفصل بين الجنة والنار، منطقة الا يقين، كرمز لحال المتهمين، وايضا يشير لمشاهدي السلسلة نفسها، والذين ستطاردهم اسئلة عديدة لم ينجح الفيلم التحقيقي إلا بالاجابة على جزء يسير منها.

قد ينال إعجابكم