A victory sign is made during a protest held on Habib Bourguiba avenue in Tunis, on Monday May 22, 2017. Chedly Ben Ibrahim/SIPA USA/PA Images. All rights reserved.
فجّر الممثّل التلفزيوني السوري عباس النوري جدلاً على مستوى "الرأي العام" السوري، بسبب تصريحاته خلال مقابلة مع "راديو المدينة" في العاصمة السوريّة دمشق، قال فيها إنّ "صلاح الدين الأيوّبي هو كذبة كبيرة"، ما جعل تصريحه هذا قيد تناول واستهجان على مواقع التواصل الاجتماعي و الصحافة أيضاً.
النوري، ضمن مقابلته في برنامج "المختار" كان قد حاول الظهور بمظهر الناقد السياسي والاجتماعي للعديد من مظاهر الحياة الثقافيّة في سوريا، الأمر الذي دفعه لنقد شخصيّة صلاح الدين التاريخيّة، لكن ما حدث هو أنّ هذا الجزء الأخير كان مسبّباً للجدل في أوساط الكثير من السوريّين، بعد أن قامت الإذاعة نفسها باقتطاعه من المقابلة وعرضه على صفحاتها في مواقع التواصل الاجتماعي.
النقد الموجه للنوري، كان إما للدفاع عن صلاح الدين الأيّوبي بصفته يحمل مرجعيّة تاريخيّة دينيّة للكثيرين، أو لانتقاد الممثّل السوري لتعاميه عن الجرائم الحاليّة التي تعاني منها سوريا في السنوات الأخيرة من قبل نظامها الذي يُعتبر النوري قريباً منه سياسيّاً، وإن كان هذا الأخير قد حاول إظهار العكس في عدد من المناسبات.
وبالتالي فإنّ الجدل الذي ثار حول تعليق النوري على شخصيّة الأيّوبي لم يكن منفصلاً عن طبقات مركّبة للصراعات السياسيّة والثقافيّة في سوريا، والذي ليس بجديد، أن يرتدي فيها الرأي الديني لبوس السياسي، أو أن تعبّر الآراء السياسيّة فيها عن نفسها بوصفها قضايا فنيّة وثقافيّة بحتة، حيث أنّ للّغة المواربة خاصيّة أصيلة في النقاش السوري العام، لم تشذّ حالة النوري-الأيّوبي عنها.
الزوبعة الإعلاميّة السوريّة تزامنت أيضاً مع أخرى في مصر، وصلت أصداؤها للصحافة العالميّة
الزوبعة الإعلاميّة السوريّة تزامنت أيضاً مع أخرى في مصر، وصلت أصداؤها للصحافة العالميّة، كانت هذه المرّة حول فستان ارتدته الممثلّة المصريّة رانيا يوسف في مهرجان القاهرة السينمائي. الحادثة التي بدأت بحملات تحريض من الإعلام الرسمي المصري، ومن بعض الشخصيّات الدينيّة ليتطوّر الأمر إلى قضايا رفعت بحقّ الممثلّة أمام المدّعي العام، أعلن بعض المحامون عن سحبها عقب مقابلة مهينة لرانيا يوسف مع المذيع المصري عمرو أديب "اعتذرت" فيها عن الإطلالة التي ظهرت بها في المهرجان.
الرأي العام والثورات المضادّة
توضّح حالتا النّوري ويوسف العديد من ملامح الحياة العامّة في مصر وسوريا مع نهاية العام 2018، حيث يبدو أنّنا أمام عمليّة ابتعاد مضطرد للنقاش العام عن قضايا أكثر أهميّة وتأثيراً على حياة المواطنين في كلا البلدين، تتزامن مع مضي السنوات التي أعقبت ثورات العام 2011 في كليهما.
فعلى الرغم من أن تصريحات الممثليّن وسلوكهم كشخصيّات عامّة هو أمر جذّاب دائماً للجمهور، حتّى في أكثر البلدان ديموقراطيّة، إلا أنّ تصريح عبّاس النوري، وفستان رانيا يوسف يرسمان صورة شديدة البؤس للنقاش العام في سوريا ومصر، إذا ما قورن هذا النقاش مع نوعيّة نقاشات أخرى قد تجري في أيّ بلد فيه حياة سياسيّة عامّة قد قد يكرّس الإعلام فيها الكثير من الوقت لحياة السياسيّين الشخصيّة وربّما "فضائحهم"، ولكن ليس فقط المشاهير من الممثلين.
بالعودة إلى مثالينا، نجد أنّ "الحادثتين" تشكّلان مشهدين شبه مسرحيّين ينتميان إلى عبثّيّة عربيّة أصيلة. في المشهد الأوّل يطالب عبّاس النوري أحد أعمدة ما يعرف بسوريا بمسلسلات "البيئة الشاميّة" بإعادة قراءة التاريخ لتحقيق رؤية نقديّة أنضج له، وهو كلام مستحبّ لو لم يكن صادراً عن بطل مسلسلات مثل "باب الحارة" و"ليالي الصالحيّة" وغيرها الكثير من الأعمال التي أنجزت أكثر الرؤى تسطيحاً للتاريخ الاجتماعي للمدن السوريّة، والتي تستمرّ عجلة إنتاجها حتّى اليوم على الرغم من النقد المستمرّ لها حتّى من مشاركين فيها. ذلك بالإضافة طبعاً لتوقيت الحديث عن إعادة قراءة تاريخ يعود إلى القرن الثاني عشر، بينما تعيش سوريا عقب ثورتها أكبر أزمة إنسانيّة في تاريخها الحديث، خلّفت قرابة نصف مليون قتيل، وملايين النازحين واللاجئين.
يبدو الإعلامي المصري عمرو أديب منتشياً على الهواء، بعد انتزاعه "اعتذاراً" من الممثّلة رانيا يوسف
أمّا في المشهد الثاني فيبدو الإعلامي المصري عمرو أديب منتشياً على الهواء، بعد انتزاعه "اعتذاراً" من الممثّلة رانيا يوسف، قدمّته للشعب المصري بسبب إطلالتها المسيئة لـ"ثقافته وعاداته" ليقوم على إثرها بعض المحامين بسحب الدعوى القضائيّة.
متابعة المشهد تخلق الكثير من المرارة لمشاهدة نوع من "الذكورة الجمعيّة" المصريّة متجسّدة في شخصيّة أديب منتزعة تبريراً لحقّ الممثلّة المصريّة بارتداء الفستان الذي تراه مناسباً في مهرجان القاهرة السينمائي، في تناقض مثير للاهتمام من قنوات النظام المصري الذي من المفترض أنّ حجّته الأساسيّة في الوصول للسلطة كانت القضاء على الإسلام السياسي، المهووس بدوره بالوصاية على أجساد النساء.
على الرغم من التناقضات البادية في حادثتي عباس النوري، ورانيا يوسف، إلّا أنّهما يشكّلان حالة منسجمة مع الروح العامّة للقوى المضادّة لمطالب التغيير في سوريا ومصر، فجملة التناقضات التي تحاول الرموز الإعلاميّة والثقافيّة للأنظمة بيعها مرّة تلو الأخرى لا يبدو أنّها تشكّل نشازاً عن اللحن العام لمنطق السلطة، بل لحناً منسجماً مع السلطة غير الشرعية للديكتاتوريّة، والّتي لا تترفّع عن بيع الفكرة والفكرة المضادّة لها في أيّ وقت، فهي محافظة ومنفتحة، ديمقراطية جداً ومعادية للديمقراطية في ذات الوقت، وغيرها من الصفات وأضدادها التي تشكّل حالات مثل النوري وأديب أمثلة كاشفة عن منطقها المتداعي، والمفروض بقوّة السلطة لا بسبب تماسكه المنطقي.
الجسد العربي حين تنجح الثورة
ليس بعيداً عن سوريا ومصر، أثار ممثّل سوري آخر هو حسين مرعي جدلاً في مهرجان قرطاج المسرحي في تونس، عقب خلعه لملابسه أثناء تقديم عرض مسرحي سوري من إنتاج ألماني على خشبة المسرح. الرأي العام في تونس، وأيضاً في مناطق عربيّة أخرى عاد لينشغل بجدل حول واقعة مصدرها ممثّل عربي هذه المرّة مع أسئلة حول حقّ الممثّل في التعرّي على المسرح، وعن الحدود الفاصلة بين الفن والواقع، والحياء وقلّته، وغيرها من الأسئلة التي وإن كانت مشابهة من السطح الخارجي لحادثة فستان الممثلة رانيا يوسف، إلاّ أنّها في الوقت ذاته تدور وفق قنوات مختلفة للنقاش، وللفعل ولرد الفعل.
فـ"الحادثة التونسيّة" جرت ضمن إطار مهرجان مسرحيّ ضمّ عروضاً عربيّة مسرحيّة متنوّعة بعضها قريب جدّاً من الأنظمة الحاكمة، وأخرى معارضة لها، كحال عرض "يا كبير" الذي أثار الجدل في المهرجان لتضطّر إدارته لإصدار تصريح توضّح فيه عدم معرفتها بخيار الممثّل في التعرّي الكامل على المسرح، وأنّ نسخ العرض التي قدّمها المسرح الألماني المنتج للعرض مختلفة عن تلك الّتي قدّمها العرض على الخشبة فيما يبدو خياراً مرتجلاً من الممثّل أثناء تقديم العرض.
المنطق العام لمشكلة الجمهور مع عرض "يا كبير" يتشابه مع قضيّة فستان رانيا يوسف، لجهة غضب الجمهور العربي بسبب ما تعتبره فئات واسعة "خدشاً" للحياء العام أو "إخلالاً بالأخلاق" ولكن في الوقت ذاته اختلفت آليّات معالجة الموضوع بما يبدو انسجاماً مع طبيعة النقاش العام في البلد العربي الوحيد الذي بدأ عمليّة التحوّل الديمقراطي بعد نجاح ثورته نهاية العام 2010، فالقضيّة لم تتطوّر –حتّى اللحظة- لدعاوى قضائيّة، أو لاعتذار علني مهين كما مع رانيا يوسف، بل على العكس من ذلك، شهد النقاش العام التونسي ارتفاعاً لأصوات تدافع عن خيار الممثّل وعن الحريّة الفنيّة، ليبدو النقاش دائراً في فضاء أكثر "صحيّة" وديموقراطيّة من الفضائين السوري والمصري.
لا تبدو الكتلة الكبيرة من الجمهور العربي بريئة من عدائيّة النقاش العام المحتقن تجاه حريّات الأفراد في التعبير وارتداء ما يرونه مناسباً، ولكن في الوقت ذاته لا تقصّر الديكتاتوريّة في لعب دور الراعي الحريص على تدوير النقاش العام في خدمة حالة عدم الجدوى السياسيّة أو حتّى الاجتماعيّة، حيث نرى في الحالة التونسيّة استثناءً مبشّراً بأمل ما في الخروج من الحالة الصفريّة للنقاش العربي حين يتعلّق الأمر بالتراث أو الجسد، أو حقوق المرأة، وغيرها الكثير من التابوهات العربيّة المحروسة بتُرس الدين، وسيف الديكتاتوريّة.
تعليقات
نشجّع أي شخص على التعليق. الرجاء الرجوع إلى تعليمات أسلوب التعليق الخاص ب openDemocracy ن كان لديك أسئلة