الحرب في سوريا قاب قوسين أو أدنى من نهاية أوارها مع الانتهاء عسكرياً من تنظيم "الدولة الإسلامية" والذي كان في أعوام مضت الأكثر سيطرة جغرافياً على سوريا، وشكّل مع مناطق نفوذه في العراق ما سُمّي بدولة الخلافة الإسلامية، الأمر الذي استدعى، حينها، تشكيل التحالف الدولي لمحاربة التنظيم أوائل العام 2014 وبدء التنسيق بينه، أي التحالف، وبين وحدات حماية الشعب (الكُردية) ولاحقاً قوات سوريا الديمقراطية.
من المفترض أن الحسابات الدولية ستختلف بعد الهزيمة العسكرية للتنظيم المتطرف، وعليه فإن مصالح الدول العظمى ستتسق مع الدول الإقليمية الفاعلة، وعلى رأسها إيران وتركيا والمملكة العربية السعودية، وبالتالي على القوى المحلية أن تتحلى بقدر كبير من الحنكة السياسية كي تحافظ على بقائها.
كان كُرد سوريا أكثر القوى تنظيماً على الصعيدين السياسي والعسكري، إذ يستمر عملهم السياسي منذ العام 1957، والعسكري منذ 2011 حيث وحدات حماية الشعب ولاحقاً قوات سوريا الديمقراطية.
شكل حزب الاتحاد الديمقراطي ثقلاً كبيراً في الحرب الممتدة منذ عام 2011 وأسس إدارات ذاتية في كل من الجزيرة وكوباني (عين العرب) وعفرين (قبل أن تسقط في يد القوات التركية وفصائل المعارضة السورية الموالية لها أوائل العام 2018).
مصير المنطقة أصبح مجهولاً بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سحب جنوده من سوريا أوائل العام 2018 ورغم وضوح أسباب الموقف الأمريكي هذا، بغياب أي أهمية استراتيجية لسوريا في القاموس الأمريكي، حيث لخصها ترامب بوصفها ببلد الرمال والموت، إلا أن حزب الاتحاد الديمقراطي يصر على إنكار الواقع والتعويل على إقناع نفسه ومناصريه وسكان شرق الفرات بأن القرار الأمريكي لن يتم، وإن تم فلن يؤثر على الوضع القائم في المنطقة منذ انسحاب القوات الحكومية منها لصالح وحدات حماية الشعب الكردية إبان بدء الاحتجاجات في سوريا ربيع العام 2011.
حالة الإنكار هذه تترافق مع تصلبه والحكومة السورية في البحث عن حلول عملانية لحل القضية الكردية في سوريا ابتداءً، وشرق الفرات بما تملكه من ثروات نفطية وغازية وزراعية كبيرة في المقام الثاني.
التصلب الحالي نسخة عن شبيه له حدث أوائل العام 2018 قبيل عملية "غصن الزيتون" التركية بالاشتراك مع فصائل المعارضة السورية الموالية له، وانتهى حينها بخسارة الجانبين الكردي والرسمي السوري.
من الواضح أن التفاوض الكردي الحكومي مرهون بالموقف الأمريكي بشكل كبير، فـ جولة التفاوض الأولى بين مجلس سوريا الديمقراطية والحكومة السورية (منتصف العام 2018) كان عقب الإعلان الأمريكي الأول عن سحب قواته مطلع العام 2018 وانتهت الجولة الثانية بالفشل وذلك حين أقنع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون إضافة لعدد من الساسة والعسكريين الأمريكيين الرئيس ترامب بالعدول عن قراره ذلك، والذي تبيّن أنه تأجيل له وحسب.
كما أن الانفتاح الكردي على التفاوض مع دمشق عقب الإعلان الأمريكي الثاني كان قد أعقبه طلب أمريكي من الجنرال البارز مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية بالتريث قبل عقد أي صفقة مع حكومة الرئيس السوري بشار الأسد. هذا ما حدث بالفعل، فلا الحوار بين الطرفين بدأ، ولا أثمرت اللقاءات المكوكية التي عقدها عدد من قيادات "الاتحاد الديمقراطي" مع الجانب الروسي. كانت الرغبة الكردية بتولي موسكو مهمة رعاية التفاوض مع دمشق، لكن يبدو أن القيادات الكردية قد أقنعت نفسها للبقاء في المركب الأمريكي، وليس أدلّ على ذلك من زيارة الرئيسة التنفيذية لمجلس سوريا الديمقراطية إلهام أحمد لواشنطن ولقائها بعدد من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي والسعي لأخذ ضمانات من الجانب الأمريكي لإبقاء الحال على ما هو عليه في المنطقة، أو الضغط لأخذ واشنطن قرار بفرض منطقة حظر جوي أو إقامة منطقة آمنة برعاية دولية منعاً لأي تدخل تركي محتمل في منطقة شرق الفرات.
أنقرة هي الأخرى تحاول تدوير الزوايا لعقد صفقة مع واشنطن تمكنها من دخول منطقة شرق الفرات، وتراعي فيها الشروط الأمريكية المتلخصة بـ ضمان عدم عودة تنظيم "الدولة الإسلامية" ومناهضة الوجود الإيراني وضمان أمن الكرد المتخوفين من مصير مشابه لما يجري في مدينة عفرين منذ بدايات العام 2018.
وحيال ذلك فإن أنقرة تعد ملفاً، توافق عليه موسكو، ستقدمه للولايات المتحدة، يقضي بتسليم إدارة المنطقة عسكرياً لقوات بيشمركة روج الكردية التابعة للمجلس الوطني الكردي المقرب من أنقرة والموالي للحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق، وكذلك لقوات النخبة التابعة لرئيس تيار الغد أحمد الجربا المقرب من المملكة العربية السعودية.
تبدو المحاولات التركية هذه متسقة مع الجهود الروسية لملء الفراغ الناجم عن الانسحاب الأمريكي المتوقع في نهاية نيسان الحالي، في حال فشل الجهود الرامية لانتشار الجيش السوري في منطقة شرق الفرات في ظل عدم تبلور أي اتفاق بين القامشلي ودمشق.
الصفقة الأمريكية التركية، إن تمت، ستكون وبالاً على سكان المنطقة، فـ القوات المفترض دخولها لن تستطيع الخروج عن العباءة التركية التي لم تبنِ أي نموذج يحتذى في المناطق التي تسيطر عليها سواءً في إدلب أو مناطق درع الفرات في جرابلس والباب وإعزاز أو في عفرين.
في حال اختار حزب الاتحاد الديمقراطي المواجهة العسكرية مع الأتراك فلا شك أن الهزيمة ستكون حليفته، نظراً لفارق العدة والعتاد، واستبعاد أي تدخل دولي لصالح أحد الطرفين، وعليه فإن سيناريو تفاوض الإدارة الذاتية مع الحكومة السورية وبـ رعاية روسية هو الحل الأكثر عقلانية، وبالتالي فإنه على مجلس سوريا الديمقراطية، ودمشق أن يكونا بمنتهى الحكمة، ويقدما تنازلات في سبيل الوصول لحل يقلب الطاولة على أي مصير لا يحمد عقباه.
تعليقات
نشجّع أي شخص على التعليق. الرجاء الرجوع إلى تعليمات أسلوب التعليق الخاص ب openDemocracy ن كان لديك أسئلة