أعود بانتظام إلى الوثيقة الأميركيّة الرئاسيّة الرسميّة التي تحمل عنوان «استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة» والتي أصدرتها إدارة بوش في عام 2002. قد لا يدرك البعض أن هذه الوثيقة (عملت على كتابتها كونداليسا رايس بشكل أساسي)، لا تزال مُعتمَدة وهي كانت أقل رياء ومواربة من الوثائق الأميركيّة اللاحقة عن الأمن القومي.
كانت الإدارة لا تزال منبثقة من تفجيرات أيلول وعبّرت عن مكنونات ما كانت أميركا تعبّر عنها بهذه الصراحة قبل 11 أيلول (وبعد نهاية الحرب الباردة). ويرد في الوثيقة، في ما يرد، «أنه آن الأوان للتأكيد مرّة أخرى على الدور الأساسي للقوّة العسكريّة الأميركيّة. يجب أن نبني وأن نصون دفاعاتنا بما لا يقبل التحدّي. تكمن الأولويّة الأعلى لقوّاتنا العسكريّة في الدفاع عن الولايات المتحدة. ولفعل ذلك، فإن قواتنا العسكريّة يجب أن: تُطمئِن الحلفاء والأصدقاء، منع المنافسة العسكريّة المُستقبليّة، وردع تهديدات ضد المصالح الأميركيّة، أو مصالح الحلفاء والأصدقاء، وإلحاق الهزيمة بحسم ضد أي خصم إذا فشل الردع. إن القوّة التي لا موازاة لها للقوّات المسلّحة الأميركيّة، ووجودها المتقدّم، ضمنت السلام في المناطق الأكثر حيويّة في العالم». (ص. ٢٩ من الوثيقة). هذه هي الطموحات الأميركيّة الصريحة من دون ستائر أو تنميق أو كلام ناعم (على وزن القوّة الناعمة). وهذه هي الأسباب الحقيقيّة للصراعات العالميّة الحاليّة. لن تسمح الحكومة الأميركيّة بمنافسة مِن أحد حول العالم ــ لا من الصين ولا من روسيا. والطريف أن الوثيقة المذكورة تقلّل من شأن الخطر الروسي وتقيم الاعتبار للخطر الصيني الأبرز (لا تزال الخطط العسكريّة الأميركيّة الحالية تقيم الحسبان الاستراتيجي للخطر الصيني أكثر بكثير من الخطر الروسي على مصالح السيطرة الأميركيّة العالميّة). الوثيقة تقول عن روسيا ما يلي: «لم تعد الولايات المتحدة وروسيا خصمين استراتيجيّين». وقيل هذا الكلام عندما كان بوتين حاكماً بأمره، بعدما وصل إلى السلطة في صفقة ضمنت عدم ملاحقة بوريس يلستن بتهم فساد متعدّدة. ظنّت الحكومة الأميركيّة أن بوتين سيكون نسخة طبق الأصل عن معادلة يلستن في الحكم بالنسبة إلى أميركا: أي يحكم ويتسلّط ويقمع كما يشاء، مقابل أن يخضع لإملاءات الحكومة الأميركيّة في السياسة الخارجيّة، وبحذافيرها. ولم يخيّب بوتين آمال أميركا، لسنوات.
تطلع صحف عربيّة وشرقيّة بعناوين عن «عودة الحرب الباردة». لكن هل حقّاً الحرب الباردة انتهت يوماً، أم أنها خبت لفترة، أو أن أشكالها تغيّرت وفقاً للمتغيّرات الدوليّة. إن سقوط الاتحاد السوفياتي الذريع عزّز من طموحات أميركا للسيطرة على العالم والتسلّط عليه، ولم يخفَّف منها. أوضح جورج بوش (الأب) ذلك في كتابه (مع صديقه برنت سكوكرفت) «عالم مُتغيّر»، عندما تحدّث عن دور الأمم المتحدة على أنه ضروري بدرجة خدمته للمصالح الأميركيّة لإسباغ شرعيّة على سياساتها وعلى أعمالها الحربيّة. الحرب الباردة كانت وجهاً من وجوه السعي الأميركي للسيطرة على العالم بعد الحرب العالميّة الثانية. من الدعاية الغربيّة عن الحرب العالميّة الثانيّة، أن جنون هتلر أدّى به إلى أن يحلم بالسيطرة على العالم. لكن الحلم نفسه راود الحكومة الأميركيّة منذ هزيمة هتلر، لكنها تضفي على حلمها دعاية أكثر أناقة ومهارة من دعاية هتلر (مع أن السياسة الأميركيّة تعلّمت الكثير من دعاية غوبلز، فكل المهرجانات الأميركيّة الحزبيّة هنا مُستقاة بالكامل من مهرجانات الحزب النازي، وخصوصاً من مهرجان الألعاب الأولمبيّة في برلين في عام ١٩٣٦، والتي سحرت عقل الشاب بيار الجميّل كما سحرت عقول ساسة أميركا مذّاك. ولا تزال المهرجانات الأولمبيّة الأميركيّة مسروقة من تصميمات غوبلز).
والخدعة في سياسة أميركا في الحرب الباردة أنها روّجت لفكرة أن عقيدة «الاحتواء» (التي وضع لبناتها الأولى الدبلوماسي الأميركي جورج كنن، في مقالة باسم «السيّد إكس» في عام ١٩٤٧ في مجلّة «فورين أفيرز». والسرديّة الرسميّة لعقيدة أميركا نحو الاتحاد السوفياتي، تقول إن هذه العقيدة سادت حتى بروز عقيدة ريغان في الثمانينيّات عندما انتهجت أميركا سياسة ردّ سيادة ونفوذ الاتحاد السوفيات، وليس احتواءه فقط. لكن هذه السرديّة هي وجه من وجوه الدعاية السياسيّة المُوارِبة. عقيدة ريغان كانت هي السائدة قبل سنوات من وصول ريغان إلى السلطة.
والكتاب الجديد للمؤرّخ مايكل دوران (الذي أراده برنارد لويس خلفية له في جامعة برنستون قبل أن ينشقّ ويعمل مستشار الأمن القومي لشؤون الشرق الأوسط في إدارة بوش) بعنوان «رهان أيْك: صعود السيطرة الأميركيّة في الشرق الأوسط»، يحاول أن ينسب مصاعب السياسة الأميركيّة في الشرق الأوسط إلى مغازلة الحكومة الأميركيّة في الخمسينيات لجمال عبد الناصر، وأن أميركا ضحّت بصداقتها مع بريطانيا وفرنسا ودولة العدوّ الإسرائيلي للتقرّب من عبد الناصر. لا، أكثر من ذلك: يزعم دوران أن أميركا هي التي صنعت زعامة جمال عبد الناصر. طبعاً، لم تتصدّ أميركا لمترتّبات العدوان الثلاثي تقرّباً من عبد الناصر بل من أجل وضع حدود التعاطي العالمي الجديد بعد الحرب العالميّة الثانية. أرادت أميركا أن توضح للحليف البريطاني أن عهد الامبراطوريّة البريطانيّة قد ولّى. لهذا، فهناك مَن يعتبر أن العدوان الثلاثي (أو ما يُسمّى في تأريخ الديبلوماسيّة البريطانيّة بكلمة واحدة، «سويس») هو النعي الرسمي للإمبراطوريّة الأميركيّة. ووزارة الخارجيّة والمخابرات الأميركيّة، بشخص الأخوين دالس في تلك السنوات بعد الحرب العالميّة الثانيّة (وهناك كتاب ستيفن كزنر، الذي صدر قبل ثلاثة أعوام، بعنوان «الشقيقان: جون فوستر دالس وألن دالس وحربهما العالميّة السريّة» ــ هو توثيق لإعلان حرب عالميّة من طرف عالم لتوطيد دعائم السيطرة العالميّة الأميركيّة) بذلت جهداً لبسط نفوذ امبراطوريّة عالميّة لا تسمح بوجود منافسة لها في الكون.
لم تكن الحرب العالميّة حرباً من طرفيْن، أو ربما هي كانت فقط في عهد ستالين الذي فهم أصول اللعبة مع أميركا. لكن حتى ستالين، كان الأخير يؤمن بـ«الاشتراكيّة في بلد واحد»، وهو لم يخض غمار الصراع العالمي لصالح الشيوعيّين الأمميّين (مثل الحرب الأهليّة الإسبانيّة) إلا متردّداً. بالرغم من كل الشيطنة (الظالمة في جوانب منها) التي أسبغتها الدعاية الأميركيّة على ستالين، فإنه لم يكن يحلم بسيطرة عالميّة مثلما حلمت وسعت الإدارات الأميركيّة المتعاقبة. قد يلجأ قارئ ما هنا إلى دراسات وكتب عن ستالين وعن الاتحاد السوفياتي لتدعيم وجهة نظره (ونظرها) لكن هذا موضوع آخر. والحروب الغربيّة ضد الاتحاد السوفياتي بدأت بمجرّد فوز الثورة البلشفيّة (والطريف أن تعداد ضحايا ستالين يتضمّن ضحايا الغزو الغربي و«الأبيض» ضد الحكم الشيوعي).
إن الدراسات السوفياتيّة في كل الجامعات الأميركيّة كانت جزءاً ممّا أسماه إدوار سعيد في كتاب «الاستشراق» بـ«المعرفة السياسيّة» (تمييزاً لها عن «المعرفة المحضة»—هذا إذا قبلنا بفرضيّة سعيد عن «المعرفة المحضة»). وكتاب زاكري لوكمان الجديد (وهو كتابه الثاني في رصد سيرة الاستشراق الأميركي) يتحدّث بوضوح عن دور الحكومة الأميركيّة المباشر في إنشاء ما يُسمّى بـ«دراسات المناطق»، وهو المشروع الذي أدّى إلى تمويل الحكومة الأميركيّة لمراكز دراسات المعسكر الشيوعي ومراكز دراسات الشرق الأوسط. عمليّة إنشاء مراكز دراسات الشرق الأوسط ودراسات الاتحاد السوفياتي كما يرويها لوكمان ربطت بين قانون الدفاع الوطني التعليمي وبين مؤسّسات («لا ربحيّة») مثل كارنغي وفورد. وتشارك مسؤولو الحكومة الرفيعون مع مسؤولي مراكز الأبحاث في تصميم تلك المراكز التي رصدت الحاجات السياسيّة والدعائيّة والأمنيّة للحكومة الأميركيّة. (راجع حول الدراسات السوفياتيّة كتاب ديفيد إنغرمِن، «إعرف عدوّك: صعود وسقوط خبراء أميركا عن الاتحاد السوفياتي). والمؤتمرات الأكاديميّة عن دراسة الاتحاد السوفياتي كانت إما بمبادرة أميركيّة حكوميّة أو بمشاركة منها. ومؤتمر جامعة هارفرد الذي تحوّل إلى كتاب في عام ١٩٥٤ عن دار جامعة هارفرد عن «التوتاليتاريّة» كان مشروعاً سياسيّاً أميركيّة لشيطنة الاتحاد السوفياتي، وتحوّل التنظير الأكاديمي عن التوتاليتاريّة شتيمة تُرمى يمنة ويُسرى فقط لأعداء الحكومة الأميركيّة حول العالم (وليس عفواً أن المؤتمر ساوى بين النازيّة والشيوعيّة، وهو ما فعلته حنة أرندت في كتابها «أصول التوتاليتاريّة» الذي كان قد صدر في عام ١٩٥١). لكن الاستعمال للمصطلح هذا كان ذا جذور سياسيّة فجّة: استعمله ونستون تشرتشل في الثلاثينيّات وسبقه استعمال لكاتب في وصف الشيوعيّة. وهذا الوصف تعَوْلَم واعتنقته الملايين على أنه صفة موضوعيّة بريئة عن الهوى.
لكن مؤتمر «التوتاليتاريّة» في هارفرد في الخمسينيات شهد صعود خبراء الاتحاد السوفياتي الذي كانت أبواب الحكومة ــ على مستوى رفيع ــ مفتوحة أمامهم. وعليه، فإن زبغنيو برجنسكي (خبير الشيوعيّة في جامعة كولومبيا لعقود بعدما فاز عليه هنري كيسنجر في منصب كرسي في العلوم السياسيّة في جامعة هارفرد) عمل مستشاراً للأمن القومي لجيمي كارتر، فيما عمل ريتشارد بايبس (مؤرّخ الشأن الروسي في جامعة هارفرد، ووالد دانيال بايبس الذي لم يحظّ بالسمعة الأكاديميّة لوالده فانشغل بالكتابة التجاريّة والسياسيّة الليكوديّة الفجّة) مستشاراً لرونالد ريغان وعضو فريق «باء» الذي أنشأته وكالة المخابرات الأميركيّة كي يقدّم خدمات استشاريّة تحليليّة للحكومة الأميركيّة حول وضع قوّة الاتحاد السوفياتي (لأن فريق «ألف» لم يكن متزمّتاً ومتعصّباً بما فيه الكفاية حسب وزير الدفاع آنذاك، دونالد رمسفيلد). وفي المراجعة التاريخيّة، فإن فريق «باء» (فيما صدر عن كلام لبابيس نفسه) بالغ كثيراً في تقدير القوّة العسكريّة والاقتصاديّة السوفياتيّة، إلّا أن ذلك كان مفيداً لشركات التصنيع العسكري التي تشاركت مع وزارة الدفاع في الزيادات المطردة في الإنفاق في عقود الحرب الباردة. والدراسات السوفياتيّة في حينه كانت ذات رأي واحد متصلّب. وأصبح تدوير الخبراء الأكاديميّين المتصلّبين عن الاتحاد السوفياتي عادة جارية: فكونداليسا رايس ومادلين ألبريت وروبرت غيتس، كلهم بدأوا سيرتهم المهنيّة في دراسة أكاديميّة للمعسكر الشيوعي. أذكر عندما ألقت مادلين البرايت خطبةً أمامنا في صف «السياسة الخارجيّة للاتحاد السوفياتي» في جامعة جورجتاون كمحاضِرة زائرة، إن كلامها كان أشبه بالتعبئة والتحريض ضد الشيوعيّة مِن محاضرة جامعيّة.
وعندما تخصّصتُ (فرعيّاً) في الجامعة في أميركا في الدراسات السوفياتيّة هالتني حالة الإجماع في تقييم الشيوعيّة والاتحاد السوفياتي. لم يشذّ عن ذلك إلا قلّة نادرة، مثل جيري هوف في جامعة «ديوك» وستيفن كوهن في جامعة برنستن (والذي يظلّ من القلائل من جيل خبراء الاتحاد السوفياتي السابق الذي بقي على نقده للسياسات الأميركيّة نحو الاتحاد السوفياتي ــ لكن ينسى البعض أن كوهن عمل مستشاراً للرئيس الأميركي، جورج بوش في آخر سنوات الحرب الباردة). حاول هوف وكوهن كسب استقلاليّة ما في دراسة الاتحاد السوفياتي، وكان هذا النمط في الدراسة والأبحاث يعرّض صاحبه للتخوين ويحرمه من التمويل السخي في تلك الأيّام. وأعاد هوف نشر وتعديل كتاب أستاذه في جامعة هارفرد، ميرل فينسد، بعنوان «كيف تُحكم روسيا» (وكان الكتاب المرجع في كل جامعات الغرب، وفي الجامعة الأميركيّة في بيروت) بعنوان آخر: «كيف يُدار الاتحاد السوفياتي»، وأدّى ذلك إلى تخوينه لليونته في درس العدوّ.
لكن كوهن لم يكن ماركسيّاً وهو كتب أطروحته في جامعة برنستن (تحوّلَ إلى كتاب فيما بعد) عن «بوخارين والثورة البلشفيّة». وجذْب شخصيّة بوخارين لكوهن كان للأسباب الأميركيّة التقليديّة، أنه كان أقلّ التزاماً أيديولوجيّاً (وهو الذي طوّع النظريّة الماركسيّة من أجل أن يفتي أن النضوج «الإنساني» هو أهم من النضوج «الماديّ» من حيث توفّر شروط الثورة الشيوعيّة في بلد غير متطوّر صناعيّاً). وجذب كوهن أيضاً أن بوخارين كان براغماتيّاً (كم يحب الأميركيّون ــ حتى اليساريّين ــ هذه الكلمة لأنها تعني تحريرهم من أعباء أيديولوجيّة، لكن هذا التحرّر هو في حد ذات أيديولوجيّة. فإعلان «نهاية الأيديولوجياً» على يد دانيال بيل، هو مثل إعلان «نهاية التاريخ» لفوكوياما من حيث إعلان فوز أميركا في الحلبة الكونيّة، ووضع أميركا خارج التصنيفات السائدة). وأسرّ كوهن بأن بوخارين الذي عارض اتفاقيّة برست ــ لتوفسك (أي أنه كان في يسار الشيوعيّة السوفياتيّة) أصبح مناصراً لـ«الخطة الاقتصاديّة الجديدة» في عام ١٩٢١، والتي وصفها لينين نفسه بأنها نسق من «رأسماليّة الدولة» (أي أنه أصبح في يمين الشيوعيّة السوفياتيّة). ونادى بوخارين أيضاً بالتعامل المعتدل مع الفلاحين المتوسّطين، (والذي يعود إلى كتاب كوهين عن بوخارين يلفته مدى تجنّيه الأميركي الأكاديمي ــ الذي لا مفرّ منه ــ في دراسة ستالين، فيقول عن ستالين، ومن دون أي دليل على الإطلاق، أنه تسبب بمجاعة ١٩٣٢ ــ ١٩٣٣ «عن قصد» (ص. ٣٣٩ من الكتاب المذكور).
لكن الاتحاد السوفياتي سقط، ولأسباب تتعدّد في التحاليل. التحليلات الأميركيّة كانت متناقضة ومتهافتة دوماً: هم قالوا إن سقوط الاتحاد السوفياتي كان حتميّاً ثم يقولون إن السقوط كان نتيجة حزب وصلابة رونالد ريغان. وتتعدّد الأسباب، وهناك مدارس وتصنيفات بيبليوغرافيّة عن الأسباب. بعضها يتحدّث عن التدهور الاقتصادي: كان الاقتصاد السوفياتي في حالة تقدّم دائم ونموّ منذ الحرب العالميّة الثانيّة حتى السبعينيات عندما بدأ التدهور. وهبوط أسعار النفط في الثمانينيات، أدّى إلى وفرة نفطيّة (كالعادة بقرار سعودي—والحكومة السعوديّة تاريخيّاً كانت دوماً مستعدّة لإغراق الأسواق بالنفط حتى لو أدّى ذلك إلى تدنّي الموارد السعوديّة، وغالباً من أجل تسديد خدمات أميركيّة ضد أعدائها، الاتحاد السوفياتي يوماً أو إيران فيما بعد). والذي يراجع وثائق السفارة الأميركيّة في طهران، التي نُشرت قبل زمن «ويكيليكس» في نحو مئة مجلّد، قد يُفاجأ بالدرجة التي تحتلّ فيها المواضيع النفطيّة المباحثات بين الحكومة الأميركيّة وبين أنظمة النفط والغاز. وكانت سياسة الانفتاح الاقتصادي التي انتهجها غورباتشوف أدّت إلى تفاقم الأزمة الاقتصاديّة وإلى مزيد من التناقص في النموّ. والحرب في أفغانستان شدّت من عزيمة أميركا في تدمير الاتحاد السوفياتي (كل الأرقام المتداولة عن ضحايا الغزو السوفياتي لأفغانستان هي أرقام كاذبة وهي في حقيقتها ــ ومن دون التقليل من بطش القوّات السوفياتيّة، والتي لم تصل إلى درجة وحشيّة الحروب الأميركيّة أو وحشيّة حلفاء أميركا بين «المجاهدين» الأفغان ــ أقل من عدد ضحايا أميركا في الحروب في شرق جنوب آسيا).
لكن الصراع بين الجبّارين لم يكن أيديولوجيّاً، أو أنه كان أيديولوجيّاً في مراحل عند الطرف السوفياتي عندما أراد الشيوعيّون في موسكو تعميم النموذج البلشفي. أما الحكومة الأميركيّة، فلم تكن تعنى يوماً (وليس من وثائق تثبت العكس، خصوصاً أن لدينا تسجيلات من المكتب البيضاوي في البيت الأبيض في سنوات كنيدي وجونسون ونيكسون) بالشعارات البرّاقة التي رفعتها في وجهنا عن العدالة والحريّة والديموقراطية. لم تنفقْ أميركا فلساً واحداً ولم ترمِ قنبلة واحدة في الدفاع عن هذه المبادئ التي غشّت الكثير من الشعوب. وبعد الغزو الأميركي للعراق في عام ٢٠٠٣، أجرت مؤسّسة أميركيّة استطلاعاً للرأي في العراق ظهر فيه أن نسبة ١٪ (لا غير) صدّقت الحكاية المُعلنة الأميركيّة عن دوافع الغزو البريئة في دعم الديموقراطيّة. كان الصراع من الوجهة الأميركيّة صراع «القوّة العارية»، كما يسمّيها عتاة منظّري «سياسة الواقعيّة في السياسة الدوليّة». ولم يكن هناك رادع أخلاقي واحد أو قانوني في مجرى الحرب الباردة ليؤثّر على السياسات الأميركيّة.
يمكن في منظور معيّن، تحليل أسباب سقوط الاتحاد السوفياتي إلى تمنّعه عن اللجوء إلى الأساليب والوسائل اللاأخلاقيّة نفسها التي لجأت الحكومة الأميركيّة إليها. الحكومة الأميركيّة كانت تستسهل التهديد (ولا تزال) بالسلاح النووي (هدّد جيمس بيكر طارق عزيز بالسلاح النووي في ذلك الاجتماع الشهير في جنيف قبل الحرب في عام ١٩٩١). الاتحاد السوفياتي لم ينظر ولا مرّة في احتمال لجوئه إلى السلاح النووي. كانت القيادة العسكريّة الأميركيّة (ويظهر ذلك في تسجيلات البيض الأبيض) متحمّسة لاستعمال السلاح النووي (ووفق عقيدة «أيزنهاور» المسمّاة بـ«الردّ الهائل» والتي أراد كنيدي استبدالها بعقيدة «الردّ المرن» ــ النووي المرِن) في أزمة الصواريخ الكوبيّة وكان رئيس أركان القوّات المسلّحة الأميركيّة يضغط على كنيدي من أجل إطلاق الردّ النووي (راجع مقالة روبرت داليك، في العدد الخاص عن كنيدي من مجلّة أتلانتيك، «جي.إف.كي في مواجهة العسكر»). لم يكن التنافس الأميركي ضد الاتحاد السوفياتي ذا ضوابط أو حدود. بل هناك أسرار عن هذه الحدّة في التنافس من قبل أميركا لا نعلم بعد كل جوانبها.
خذوا وخذن مثلاً مشروع «إي.١١٩». هذا مشروع غير معروف البتّة لأن الحكومة الأميركيّة حرصت عبر العقود على الحفاظ على سريّته. المشروع استمرّ لعشر سنوات (من عام ١٩٤٩ حتى عام ١٩٥٩) وهو خطّط لتفجير سلاح نووي على سطح القمر. ولم يعرف الشعب الأميركي بهذا المشروع (الذي أرصدت له الحكومة الملايين من الإنفاق السرّي) إلا في عام ٢٠٠٠ أثناء إعداد بحث عن سيرة عالم الفلك المعروف، كارل سيغان، والذي كان من الفريق العلمي الذي عمل عليه. وترفض الحكومة الأميركيّة الإفراج عن كل الوثائق المتعلّقة بالمشروع، لا بل أنها تنفي ضلوعها فيه حتى الساعة. والأسباب التي أدّت إلى إلغاء المشروع لم تكن أخلاقيّة بل عمليّة للغاية: كان هناك خوف من ردّة فعل عالميّة دعائيّة ضد الدعاية الأميركيّة الناشطة ضد الاتحاد السوفياتي، كما أنه كان هناك خشية من تحوّلات مناخية عالميّة ومن حدوث أضرار على سطح القمر مما يعطّل خططاً أميركيّة لاستكشاف القمرــ ولـ...استعماره أيضاً، كما يرد فيما نُشر عن المشروع السريّة. (بلغت الوقاحة الأميركيّة حدّاً أن الحكومة الأميركيّة ــ على الأرجح ــ سرّبت إلى الصحافة الأميركيّة في حينه أخباراً ملفّقة عن مشروع سوفياتي لتفجير سلاح نووي على سطح القمر للاحتفال بعيد ثورة أكتوبر، ولم يكن هناك دليل على ذلك أبداً).
هل أميركا ستتجه إلى تسعير الحرب الباردة أم أن دونالد ترامب سيقود السياسة الخارجيّة الأميركيّة باتجاه التصالح مع روسيا؟ للحديث صلة.
يتبع.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)