باسم شيت
وثيقة قدّمها "التجمع اليساري من أجل التغيير" إلى "اللقاء اليساري التشاوري" المنعقد في قصر الأونيسكو في بيروت بين 15 و16 آذار 2008
* تم جمع الوثيقة من خلال عدة مقالات نشرت في المنشور *
يرى الكثيرون أن أساس الأزمة في لبنان هو الانقسام ما بين قوى السلطة وقوى المعارضة، ويتم تصنيفه تقليدياً وبشكل مبسّط بأنه انقسام طائفي وصراع على السلطة. المعضلة هنا ليست وجود الانقسام، بل لماذا يؤدّي هكذا انقسام إلى أزمة؟ الصراع السياسي يُشكّل المحرك الأساسي لأي ديمقراطية برلمانية، والصراع على السلطة يكاد يكون أكثر الأشكال رواجاً فيها. المسألة هنا لا تتعلق بخلاف أو انقسام حول كيفية إدارة البلد أو حول من يديره، بل هي أزمة النظام نفسه لعدم قدرته على إدارة الصراع السياسي وعدم قدرته على استيعاب التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلد.
النظام اللبناني أو، لدقة التسمية، النظام الطائفي ليس إلاّ دائرة مفرغة لا تولّد سوى الأزمات، إذ يعتمد بشكل أساسي على التوافق لا على الصراع كمحرك له. هذا يتناقض مع أبسط قواعد الديمقراطية البرلمانية، الصراع على السلطة والصراع السياسي. فالنظام القائم ليس قادراً، لا من خلال قوانين الانتخابات المتتالية ولا من خلال الحوارات الهادئة منها والساخنة، أن يفرز أغلبية سياسية تستطيع أن تقود البلد. هو محكوم بإنتاج أغلبيات طائفية، أغلبيات نسبية يحتّم عليها إما التوافق وإما التأزم.
كل نظام ديمقراطي يجب أن يبنى على ظروف موضوعية، لا الوقائع الآنية غير المستقرة. فالتقسيم الطائفي والنسب الديموغرافية الطائفية تتغير بفعل الوقت وهي سريعة التغيير. في لبنان، بدل أن يؤمّن النظام السياسي للمجتمع خيارات حول كيفية إدارة نفسه، نراه يسقط خيارات وديناميات لا تتناسب والواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، فتكون فعاليته محدودة.
اليوم نعيش التناقض بين النظام الطائفي القائم والواقع الاجتماعي السياسي الحالي؛ كما نعيش فرصة تاريخية للتخلص من هذا النظام واستبداله بنظام ديمقراطي حقيقي يتناسب مع حاجات المجتمع ومتطلبات الصراع من أجل حياة أفضل. الواقع تغيّر، وأصبح هذا النظام عائقاً أكبر أمام تطور المجتمع.
ماذا تغيّر على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في لبنان؟
قبل الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة، كان هناك ما يعرف بالمارونية السياسية. أي كانت الطائفة المارونية هي التي تحتكر القيادة السياسية للبلاد. كذلك كان هناك نظاماً اقتصادياً حمائياً مارونياً، أي نظاماً اقتصادياً هدفه حماية رعايا الطائفة المارونية، وكانت الدولة ترعاهم بشكل خاص.
هذا النمط لم ينتج صدفة، بل له مسبباته ومبرراته التاريخية والسياسية. ففي منتصف القرن التاسع عشر مثلاً، وحتى بدايات القرن العشرين تطورت الرأسمالية في لبنان وفي جبل لبنان بالتحديد على غرار الرأسمالية الفرنسية وكانت مهام بورصة ليون بشكل أساسي هي تمويل صناعة الحرير في جبل لبنان. أدتّ صناعة الحرير إلى تطور أنماط الإنتاج في جبل لبنان وتخلفها اقتصادياً في المناطق الأخرى كالشمال والبقاع والجنوب.
أصبح الاقتصاد الجديد يمتد بين جبل لبنان وبيروت، ووجود الموارنة كأغلبية أساسية في جبل لبنان والسنة في بيروت جعلهما، وخاصة الموارنة، سباقين في مشروع بناء الدولة المركزية. والسلطة المركزية ليست حاجة إقطاعية بل هي عامود أساسي في عملية تطور النظام الرأسمالي. فالسلطة القادرة على مركزة رأسمال هي الدولة المركزية.
كان مبرراً في السياق التاريخي أن تكون القيادة السياسية والاقتصادية الإنتاجية هي قيادة مارونية، وهذا جعل الطبقة الوسطى والطبقة البرجوازية ذات أغلبية مارونية ويأتي في المرتبة الثانية السنّة. وربما هذا يبرر بعض الشيء ما يستنتجه مهدي عامل بأن الشيعة هم الأغلبية في الطبقة العاملة.
لكن الحرب اللبنانية غيّرت هذا الواقع. دمرت الحرب الأخيرة الأسس البنيوية للنظام، حيث وضعت الميليشيات والعصابات المسلحة نفسها كقوة أساسية في إدارة المجتمع، وقامت بتفتيت المركزية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، مما أثر جذرياً في التنظيم الاقتصادي والاجتماعي اللبناني. ومن جهة أخرى، تلقى الاقتصاد وقطاعاته المنتجة ضربة موجعة أجبرته على إعادة تنظيم ذاته على واقع مختلف بعد الحرب اللبنانية.
لم يعد صحيحاً ما كان موجوداً قبل الحرب، فالطبقة العاملة اليوم تضم أغلبيات الطوائف جمعاء. الحرب الأهلية منحت فرصة للرأسمال المحلي بأن يتطور من ضمن الظروف البنيوية والاقتصادية نفسها، مما مكّن إعادة تركيب الطبقة العاملة بشكل أصبحت فيه عابرة للطوائف بشكل أكثر تساوياً.
اليوم أغلبية الموارنة، كما أغلبية السنة وأغلبية الشيعة ينتمون إلى الطبقة العاملة. وهذا صحيح بالنسبة للطوائف الأخرى. يمتثل الوضع اليوم مع التعريف الماركسي الكلاسيكي: النظام الرأسمالي ينتج نهايته بنفسه، أي انه ينتج طبقة عاملة ذات أغلبية واضحة في المجتمع، بغض النظر عن تقسيمها الطائفي، تتناقض مصالحها مع مصالح النظام نفسه والطبقة الحاكمة التي تمثله.
هذا التغيير يحتّم أن تكون الأسس التاريخية والاقتصادية للنظام الطائفي قد انتهت. لا توجد اليوم طائفة واحدة سبّاقة تاريخياً أو اقتصادياً. بل إن الانقسام الأساسي هو انقسام طبقي وسياسي. وهذا ليس ما يقوله أحد اليساريين أو الماركسيين، بل هو التحليل نفسه الذي يتبناه منظمات رأسمالية دولية للواقع اللبناني.
حسب "ماريان الخوري" من البنك الدولي: "إن الانقسام الطبقي هو الانقسام الأساسي في المجتمع اللبناني ولكنه مشوه بسبب الطائفية" (هوغو بانيزا وماريان الخوري، "الحراك الاجتماعي والدِّين: أدلّة من لبنان"، موقع شبكة البحوث الاجتماعية).
يكمل التقرير بأن " لبنان يتسم بنسبة ضئيلة جداً من الحركية الاجتماعية (الارتقاء الاجتماعي) مقارنة بالمجتمعات ذات الموقع الأدنى في العالم كدول أمريكا اللاتينية، ويلاحظ أيضا أن الحركية الاجتماعية هي أعلى عند الطائفتين الشيعية والمارونية وهي الأقل عند المسلمين السنة (باستثناء اللاجئين الفلسطينيين) والطوائف المسيحية الأخرى. ويضيف التقرير "إن هذه الحركية ضئيلة عند السنة ويعود ذلك لتصرف الطبقة الوسطى والطبقة البرجوازية داخل هذه الطائفة".
وللإيضاح، يقول برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP في مجال وضع تخطيط استراتيجي للحماية الاجتماعية في لبنان في العام 2002 أن 39% من الشعب يتشاركون في 13.4% من الناتج القومي فيما 14% يسيطرون على 43% من الناتج القومي. 762 (أقل من 1%) من أصحاب الحسابات في القطاع المصرفي يسيطرون على 50.5% من المجموع العام المقدر بـ16 مليار دولار و47% يتشاركون في 2.3% من المجموع العام.
هذا يبرهن أن لبنان ليس بحاجة إلى مصادر مالية بل بحاجة إلى توزيع عادل للثروات وتوزيع للقدرات المنتجة، وإن الفروقات بين الثروات أكبر بكثير من الفروقات في المدخول، مما يعني أن الصراع الطبقي في لبنان موجود بشكل صارخ.
وفي تقرير حول الفقر في لبنان، يقول البنك الدولي أن القدرة الشرائية للعائلة النووية في لبنان في نهاية العقد الماضي هبطت بحوالي 30% مما يعني أن العائلة اللبنانية تكسب من المال ما يكفيها لتعيش الأسابيع الثلاثة الأولى من الشهر فقط.
دراسة أخرى تقول بأن 80% من الأكثر ثراءً في لبنان لا يعملون ولكنهم يعيشون على فائدة ثرواتهم المكدسة؛ هم أسياد النظام الطائفي ولكنهم يتنصلون من تبعاته الاجتماعية والاقتصادية.
ما هي جذور الانقسام الحالي؟
في ظل هذا، نرى أن الانقسام في الشارع اللبناني يتعدى الخلاف بين 14 آذار والمعارضة، وأن الوقود الأساسي لهذا الصراع هو طبقي ولكنه مشوه بفعل النظام الطائفي وعدم قدرة الطرفين المتصارعين لوضع الصراع في مكانه من الواقع الاجتماعي الاقتصادي.
أيضاً وأيضاً، لم ينتج الانقسام الحالي بعد اصطفافاً لطوائف ضد أخرى. بل نرى انقساماً داخل كل طائفة من الطوائف على أساس سياسي أو على أساس الانتماء إما للمعارضة أو لقوى السلطة. ربما لا يكون انقساماً متوازياً في كل الطوائف، ولكن ليس هناك سبب ليكون كذلك، ونرى الخطاب الشعبوي للمعارضة يستقطب أغلبية الطائفتين المارونية والشيعية الذي هو ناتج عن النسبة المرتفعة نسبياً للحركية الاجتماعية (كما ذكرنا سابقاً) مقارنة بحركية متدنية للطائفة السنية والتي هي نتاج لسياسة الطبقة العليا في الطائفة السنية. فآل الحريري يتعاملون مع العمال السنة وكأنهم ملكاً للعائلة، وسياسات تشغيل رأس المال وتسخير خدمات الدولة على مستوى الطائفة هو من الأسباب الأساسية لإنشاء انقسام طائفي ما بين السنة والشيعة. تماماً ما فعلته الطبقة الحاكمة عند الموارنة وأيضاً ما حاولت فعله الطبقة الحاكمة عند الشيعة في عهد الحريري الأب.
إن أي طبقة حاكمة أكانت مارونية أو شيعية أو سنية أو درزية سيكون دائماً هدفها أن تعزز أي انقسام موجود إن كان طائفياً، قومياً أو طبقياً من اجل حماية نفسها، وإبقاء مكانتها في الحكم.
والانقسام الطائفي تعززه كل من الزعامات السياسية الموجودة، وهو يتضح أكثر وأكثر وخاصة في ظل غياب واضح لمشروع مناهض لحركة عمالية تكسر القيود الطائفية المفروضة على الطبقة العاملة وتتجه نحو صراع مباشر مع الطبقة البرجوازية الحاكمة.
وهنا يأتي دور اليسار الفعلي في الدفع لبناء وإنشاء هكذا حركة تستطيع أن تواجه الأزمة بالتخلص من أسبابها وليس فقط من عوارضها.
كل من المعارضة والمولاة ينظر إلى الأزمة كونها أزمة حكم، أزمة تتعلق بمن يجب تنصيبه وكيفية تقسيم الحكم ما بين أعضاء الطبقة البرجوازية. وهنا علينا أن نقارب المسألة من كوننا ماركسيين ويساريين أي أننا لسنا في مكان وسط ما بين الطبقة العاملة والطبقة البرجوازية، بل علينا مقاربة الصراع من مكاننا الطبيعي فيه، أي الطبقة العاملة.
بين مناهضة الامبريالية ومناهضة الرأسمالية
لطالما كان هناك ترابط عضوي ما بين الطبقة الحاكمة العربية والامبريالية وربما لبنان هو اكبر دليل على ذلك. كلنا يعرف مدى ترابط الطبقة الحاكمة اللبنانية والامبريالية، الصغيرة منها والكبيرة، الإقليمية منها والعالمية. لذا فإن حركة المقاومة لا يمكن لها أن تكون محلية فقط بل عليها أن تمتد لأن تكون حركة مقاومة تضم شعوب المنطقة ككل. وهنا تترابط عملية مناهضة الديكتاتورية ومناهضة الامبريالية. ولا يكفي أن تكون هذه المقاومة في الإطار العسكري فقط بل عليها أن تمتد إلى مقاومة اقتصادية واجتماعية للامبريالية وحلفائها المحليين من البرجوازية العربية.
يقول ماركس "إن تحرر الطبقة العاملة، هو نتاج الطبقة العاملة نفسها". نسي الكثيرون في اليسار ما تعنيه هذه المقولة. بناء الحركة لا يمكن أن يكون فعلاً إسقاطياً في المنطق ولا في المسار ولا في الخطاب، بل إن عملية البناء تبدأ أولاً بلملمة تجارب الناس والعمّال في واقعهم اليومي، تبدأ بإنشاء شبكات تضامن بين الناس والعمال، تستطيع من خلالها أن تتشارك في الأفكار وبناء النضال من الخصوصيات اليومية وصولاً إلى الأهداف التاريخية المشتركة. هذه هي العلاقة العضوية بين الأهداف المباشرة للحركة وأهدافها التاريخية.
النضال يبدأ بقراءتنا للواقع كما هو والعمل ضمن التناقضات لتبيان فشل وعدم قدرة النظام على تلبية حاجات الناس وعدم قدرته على إنهاء الاستغلال والقمع. هنا نبدأ ببناء الخطاب السياسي؛ ننطلق من الواقع لإقناع الناس في البناء من أجل التغيير المباشر. يصبح الخطاب نتيجة لحركية الناس العاديين والعمال والطلاب من ضمن الحركة. فالتراكم ليس عملية في البناء التنظيمي فقط، بل هو عملية في بناء الحركة نفسها، هو حركية عضوية تسعى إلى إقناع الناس بضرورة الانضمام إلى الحركة والنضال سوياً من أجل تحقيق التغيير.
مع السيرورة العملية والمسار السياسي الذي تقوده الحركة عبر حركية فكرية وسياسية وتنظيمية داخلية، يصبح الهدف التاريخي أكثر وضوحاً في شكله وفي تعبيره المباشر عن حاجة الحركة في التغيير. ونعود إلى ماركس وإلى صلب الديالكتيكية المادية؛ عملية التحرر ليست نتاجاً طبيعياً للطبقة العاملة بل هي تنتج عنها في فعل نضالها ضد الطبقة الحاكمة. هي نتاج لعملية الصراع ولعملية البناء من ضمن الطبقة العاملة في آن واحد.
"
إن الأفكار السائدة في المجتمع هي أفكار الطبقة الحاكمة، وإن تحرر الطبقة العاملة هو نتاج للطبقة العاملة نفسها". التناقض هنا ليس موجوداً في رأس ماركس، بل هو تناقض في المجتمع والواقع نفسه الذي نعيشه. إن مهمة الحزب الثوري هي العمل ضمن هذا التناقض، أي البناء بفعل النضال الطبقي، وليس العمل على انتظار تأجج الصراع الطبقي من تلقاء نفسه، وليس أيضاً انتظار الطبقة العاملة لتحرر نفسها "عفوياً"، بل إن صلب التحرر هو انخراط الحزب عضوياً في الطبقة العاملة والعمل على تأجيج الصراع الطبقي والنضال، وفي نفس الوقت مراكمة الخبرات التي تنتج عن نضال الطبقة العاملة.
هذا التراكم هو صلب عملية التحرر. الثورة تصنعها الطبقة العاملة لا الحزب. دور الحزب يأتي في صياغة قيادة ثورية من خلال البناء داخل الطبقة العاملة من دون إسقاط القيادة عليها أو على حركة ناشئة. فعل الإسقاط بحد ذاته هو إنهاء للحركة وليس استكمالاً لها. يأتي ليدمّر ما بنته الحركة من قيادة وحركية ليستبدل بقيادة غريبة لا تستطيع أن تقتنع الحركة بها، تندثر الحركة وتُستبدل بالحزب.
إن تأجيج الصراع الطبقي في كونه عملية لكسر القيد الطائفي وردع التوسع الامبريالي لا يكفي أن يكون في إطار سياسي عام بل عليه أن يكون ذات إطار عملي لا ينظر إلى الواقع الطبقي في إطاره اللبناني الضيق بل يقرأ الواقع الطبقي في إطاره الواسع والعالمي، أي إن الطبقة العاملة المعنية بالتغيير في لبنان ليست فقط الطبقة العاملة اللبنانية بل كل الطبقة العاملة في لبنان من فلسطينيين وعراقيين وسوريين ومصريين وسيريلانكيين وإثيوبيين... إن عملية التحرر هي عملية شاملة تسعى إلى كسر القيود الطائفية والعنصرية كافة. الطبقة العاملة "اللبنانية" عليها السعي لبناء تحالف طبقي يهدف إلى توحيد الطبقة العاملة كلها في صراعها ضد البرجوازية المحلية منها والإقليمية والامبريالية العالمية.
العودة إلى الشارع
نحن في أمسّ الحاجة إلى دفع عملية البناء إلى الخارج، إلى خارج قاعات الاجتماعات وإلى خارج الأطر الكلاسيكية. عملية البناء تبدأ بالتخاطب مع الناس في الشارع وليس في مراكز الحزب.
الحزب هو جامعة الحركة، هو المكان الذي تُراكم وتُحلل فيه التجارب، هو يشكل في عضويته تاريخ الحركة وإرثها الفكري والسياسي، ولذا على اليسار اليوم الخروج من قوقعته ومنطقه الدفاعي والأخلاقي وأن ينظر إلى الواقع كما هو، في سيرورة تغيّره وليس ككمّ غامض وجامد.
وبناء المقاومة يسعى إلى الجمع ما بين عملية التحرير والتحرر في آن معاً. التحرر هنا لا يعني عملية صناعة الديمقراطية فقط، بل هو عملية بناء منظومة ومشروع مقاومة على جميع الأصعدة، من واقعها الطبقي والاقتصادي إلى واقعها السياسي والاجتماعي، وخطّها التحريري. وكما يقول لينين "إن من يبني نصف ثورة فهو كمن يحفر قبرها".
إن الثورة شاملة، لذا فمشروع المقاومة هو مشروع شامل، وإن مساندة المقاومة أو الدفاع عن سلاحها لا يكون في الخطاب والمسار السياسي البحت، بل يكمن في عملية بناء منظور أشمل ومقاومة أشمل. مقاومة ضد السياسات الاقتصادية، مقاومة ضد القمع والاستغلال، مقاومة ضد الاضطهاد الاجتماعي والعنصرية والتمييز، مقاومة ضد الاحتلال والديكتاتوريات. مقاومة الناس والعمال ضد جبروت رأس المال وما ينتجه من إمبريالية وحروب.
الحركات الإسلامية وحزب الله اليوم تمثلان خطّ المقاومة البديهي، وهي المقاومة العسكرية للاحتلال والعدوان، ولكنها لم تتمكّن ولن يكون بمقدرتها بناء مقاومة شاملة. هنا يكمن دور اليسار في بناء المقاومة في شموليتها وكلّيتها، مقاومة عمالية ضد الفقر والاستغلال، ومن أجل الديمقراطية والتحرر الاجتماعي. هذه المسارات لا تنفصل عن بعضها البعض. اليوم المعركة واضحة، من جهة تحاول السلطة بناء نفسها مجدداً في "حرب على الإرهاب" صيغت أميركياً وتدعمها كل أنظمة القمع والاستغلال في المنطقة والعالم.
على اليسار أن يقرأ جيداً محاور الصراع الذي نخوضه، لا أن يستسلم للمواقف الوطنية الرثة. الوطنية تصبح جريمة عندما تُبنى من خلال حرب السلطة على الشعب والعمال. معركتنا اليوم هي كما كانت سابقاً هي معركة الطبقة العاملة في لبنان من اجل التحرير والتحرر، ومعركتها تبدأ أولاً في التحامها مع الطبقة العاملة الفلسطينية من أجل حقوقنا المدنية والسياسية جميعاً، هي معركة التحامها مع جميع العمّال والعاملات من سوريا والسودان وسريلنكا ومصر ومن أي جنسية كانوا، من أجل النضال ضد القمع والاستغلال والاضطهاد.
معركتنا واحدة لأن عدوّنا الطبقي واحد، معركتنا واحدة لأن الاستغلال والقمع لا يفرقان بين جنسية وأخرى. هدف الرأسمالية هو الربح، ولا يهمها إن كان المال يأتي من جيب لبناني أو فلسطيني أو إثيوبي أو مصري أو سوري...
لقد شهدنا مؤخراً كيف تتعامل الطبقة الحاكمة بعنصرية تامة ضد كل من يعترض طريقها، فكان الهجوم الأخير ضد الفلسطينيين من خلال معركة نهر البارد، وإن كان اليسار ما زال يبحث عن الأممية فهي موجودة اليوم في لبنان. هناك عمال وعاملات من جميع الجنسيات والأطياف، وبناء الطبقة العاملة العالمية لا يبدأ بتحالفات برجوازية عالمية، بل بتحالفات عمالية طبقية، فلنبدأ اليوم بإنشاء تعاضد طبقي وصراع طبقي أممي ضد سياسات القمع والتجويع، ضد سياسات الحرمان والاستغلال.
الحرية تبدأ بالتحرر من المفاهيم والسياسات البرجوازية وليس باعتناقها. لقد برهن المنطق القومي/الوطني فشله في صناعة التغيير في لبنان، أو في صياغة التحرر. لكن ما هو ثابت أن الارتكاز الأول في صناعة التاريخ هو الصراع الطبقي، وقد وحان الوقت لأن نخرج من قوقعة المفاهيم البرجوازية العفنة والتوجه نحو الصراع وليس الهرب منه أو تهدئته. فالتاريخ تبنيه الشعوب لا الأنظمة.
بيروت في 15 آذار 2008