8‏/3‏/2016

من قريب !

نعم كانت المرة الأولى.. المرة الأولى التى أسافر فيها تاركا قلبى ورائى محلقا لا أمامى مضطربا، المرة الأولى التى يتعلق فيها بصرى بمن فارقنى لتوه ويمم شطره صوب باب الخروج، وعلى أنا أن أكمل المسير وحدى بلاه، وبلا قلبى الذى معه اختار البقاء على أن يصحبنى! 

المرة الأولى التى أصعد إلى الطائرة صعودا صعبا، كأنما روحى هى التى تصّعد فى تلك السماء، ولا ينفرج ما بها إلا فقط بذلك الشعور الخفى الذى يتملكها، أنها مشطورة نصفين، نصف معها ونصف هناك، وبينهما حبل متصل لا يتطاول ببعد مكان ولا بتغير زمان. 

نعم، تصارع الشعوران، شعور البعد والنأى، وشعور القرب والوصل، شعور الجسد التى تحل فيه روحك، وشعور روحك التى تحل فى جسدى، وتتقاز أمامى تلك اللوحة المأطرة أعلى أريكتنا البيضاء: ليس الوجود بالجسد فقط 

هنا أقع فريسة الحياة الموازية، تلك التى تملى على ألا أبتأس لألا تحزنى أنت، وأن أعيش كل ما أراه وأحفظ دقائقه فى نفسى وأعب من كل قكرة فيه حتى أبثه لك كما هو، كما لو أن كل ذرات ضوءه قد احتفظت بها فى غرفة سوداء بمحجرتي ونثرتا كقمرة قديمة أمام عينيك فلم يفت منها جزء. 

عند الإقلاع قبضت براحتى على يديك وأرسلت نظرة عبر النافذة تقول لك قد انطلقنا، فى الرحلة أغمضت عينى وحكيت لك كل حكايات طابور الوزن والجوازات وخفاقات القلب خشية الإخفاق وقفزاته ساعة المرور، قضمت نصف قطعة الخبر المقدمة فى الفطور علك تقضمين نصفها التالى، فضضت شطر صفحة من كتاب ثم أغلقته عندما اعترضتى خيالي مرة أخرى ثم مرة ثم مرات، غضضت طرفى عن الصارمات المتزينات ورأيتك تنظرين إلى وتعلقين، هذه تضع زوائدا، وتلك قد نزعت حاجبيها ورسمت مكانهما مسخا، أما هذه فجميلة فعلا، وى حتى فى هذه لا تجورين .. أغض الطرف عنهم جميعا فليس فى حضرة وجود روحك إلا أشباح لا تُبين.

عند الهبوط عببت بأول هواء يدخل صدرى مرتين، مرة لى ومرة لك، ثبت عينى وأخذت أتجول وأحكى مرة أخرى، المطار والحافلة والوفد ومستقبلونا.. السماء والغيوم والخضرة والأمطار، السيارات والإشارات والطرق والجسور، كل شىء هنا يستحق أن يحكى، لا لأنه هو، بل لأننى رأيته لك.

عند الوصول إلى الفندق، تذكرت فندقنا فى تلك الواحة البعيدة، تخيلت أنك معى الآن، تجولين ببصرك فى بهو المكان متعلقة بذراعى نستلم غرفتنا، نصعد متوثبين، تنيرين الأضواء وتتفحصين كل شىء هنا وهناك، تدورين دورة فى المكان قبل أن تفردى ذراعاك وتلقى بجسدك لمتعب من السفر على الفراش المستقر فى منتصف الغرفة وتدعوننى بإماءة من عينك كى أفرغ يدى من حقائبها وأرتاح جانبك قليلا. 

لا لا عفوا، هل قلت لك من قبل أن أفكر فى ذلك مرتين لا مرة واحدة، مرة كأنت أسماء، ومرة كأنت أسماء وورد، أما ورد فأفكر فيها داخل المرة الواحدة مرات أيضا، أحملها على يدى مرة وأربت بكفى على فقرات ظهرها اللينة، مرة أخرى أحملها على ظهرى فى حقيبتها .. أو أمسك بيدها التى ترفعها حتى تصل لأطراف كفى، هذه مرة رابعة أتابعها بعينى وهى تفز فى المكان الجديد وتلوح، أوأتابعها بشغف وهى تحمل حقائبها بنفسها وتحاول أن تقنعنى بأنها صارت كبيرة بما يكفي، تلك مرة أخيرة تتوسد يدها ذراعى كما تفعلين، وتنظرين أنت إلينا لتلتقطتى صورة وتقولين، أصبحت يا ورد عروسا.

الزيارات والأماكن الجديدة، المحاضرات والأكلات الغريبة، الدراجات والمظلات ومحطات القطار، اندهاشة الأمور الأولى، وظفر إماطة الجهل بشىء أو فهم، كل هذا من قريب أفعله معك، من قريب أشعر أنك هنا معى، وأننى هنا معك وبك فقط، فكل شىء عدا ذلك مجرد حاشية على نص أنت متنه

هنا أعرف أننى لا أستطيع إلا أن أكون منك قريبا، لأن البعد مُهلك، والنأى مُتلف، ولولا قصر الأمد لكانت حسرة الأبد، ولأن القرب حان، والوصل غير منته، أى حبيبتى وروح قلبى، أى صاحبتى وهداية عقلي، أى إنى من أقصى الأرض إلى أقصاها لا أبعد عنك إلا لأهيم بك وأقترب.


1‏/9‏/2015

حكايات عادية

المرة الأولى التى كتبت لها فيها هنا كانت لأننى أردت أن أستأنف الكتابة لها فقط، والمرة الثانية كانت بمناسبة مرور عام على وصالنا، أما الآن، فليست هناك مناسبة، هى المناسبة فى كل يوم عادى 

صباح يوم جمعة صليت وذهبت لأوقظها، إيقاظنا المحبب لقلوبنا، همسات وأحضان كافية جدا لتوقظ فينا الحياة بعد السبات، تأخذ النفس الأول من أنفاسى، وتلمح النظرة الأولى من عينها عينيى، وتسمع الصوت الأول فى أذنها صوتى، هذا هو صباحنا الأثير إذن 

نذهب سويا إلى إعداد الفطور، نوزع المهام سريعا: عليك تسخين الخبز، عليكِ تحضير الفول، اغسل لى صحنا، ناولينى السكين، املأ لى القدر، اشعلى النار تحته، الشاى، اللبن، السكر، المعالق، الأكواب.. كل شىء يدور هنا مع حكايات الصباح عن أحلام الليلة الماضية، أو عن الكلام الذى تذكرنا أن نقوله الآن رغم أننا قد طال بنا الحديث لثلاث ساعات بالأمس قبل النوم، ولكن دائما يكون هناك جديد فى تلك الرحلة القصيرة! 

على السجادة المموجة بدرجات الأخضر والأزرق، عشب وماء تحاكيه، وتحت أقدام الستائر المهفهفة نتناول الطعام، ونحتسى الشاى ممزوجا بقطرات اللبن، وأرقب عينيها وهى تحكى بشغف.

قلت لها فى هذا اليوم أننى لا أعترف بأنك زوجتى، أنت على الأرجح مخطوبتى، حبيبتى التى أقابلها بعيدا عن العيون، أشعر الآن وأنا أتحدث معك على مائدة الإفطار أننى أظفر بهذه الدقائق، نفس شعور الحبيب المحروم من حبيبته، أو العاشق الملوع بعشيقته، لا أشعر أنه حدث صباحى عادى، حق مكتسب لى ككل الأزواج، ربما أريد أن أدخل إلى حسابى وأكتب: اليوم أفطرت مع أسماء فى الصباح، وأضع وسم (يشعر بالسعادة)، أو أن أكتب بيتا من زمرة "إن العيون التى فى طرفها حور" أو "سقانى الهوى كأسا من الحب"، وعلى الأغلب لن أستطيع، لأن من يقرأ كلامى لن يظن إلا فتى فى بدايات حبه، ذاق ولم يعرف بعد! 

فما بالى ذقت وعرفت وأدمنت، وفى كل مرة أستيقظ فى الصباح أشعر أننى أذوق لأول مرة ثم أعرف فى نفس اللحظة ثم أكتشف أننى ما فتئت مدمنا لقلبك! 


فى المساء كنا على موعد زيارة عائلية، ارتيدنا ثيابنا، كويت لها الطرحة ووضعت لى العطر، تمرّينا ببعضنا البعض (أى وقفنا أمام بعضنا البعض وبدأت أناملنا فى وضع اللمسات الأخيرة كأننا أمام المرآة)، ثم تأبطت ذراعى ونزلنا من البيت، هفهفة الهواء وشجرات الورد وصوت البوابة حين تنغلق وعبور الشارع وإيقاف سيارة أجرة، كلها مشاهد عادية، لكننى أظل بها مفتونا إذ هى معى، بجوارى، تشاركنى حياة عادية. 

لم نركب أى مواصلة مع بعضنا من قبل إلا وظللنا طوال الطريق نتحدث، نخفض صوتنا حينا، ويعلو منا حينا آخر حتى يكاد يفضحنا، أقبض على يديها وتقبض على ذراعى، ونستمر فى الحديث إلى أن نصل، قد نصل إلى المكان، لكننى لا أعرف كيف أصل معها أبدا إلى نهاية حديث لا يُمل! 



عندما جلسنا مع ضيوفنا كانت لى التفاتات نحوها، كالتفاتات فتى يحاول أن يشعر فتاة فى المجلس أنه يهتم بها، يريد أن يلفت نظرها فقط، وعجبا كانت تفعل نفس الشىء، أسماء تعرف نظراتى جيدا، تعرف الآن أننى أنظر إليها نظرة إعجاب، فتستحى قليلا، تتفتح وردة حمراء فى خدها وتشغل نفسها بالكلام فى أمر ما وتصرف بصرها عنى حتى لا نتوه أكثر عن الناس، ويُفتضح أمرنا 

كان هذا صباح ومساء يوم عادى، ومن كثرة الأيام العادية استعصى على أن أحصيها، الجمال يتبعه جمال ويزداد جمالا كل يوم، فيصعب أن تتذكر منه إلا ما تحكيه مرة أخرى أو تكتبه، تعلقه على ورقة لاصقة على الثلاجة، أو تكتبه فى دفتر بمناسبة سنوية، أو تحكيه فى آخر اليوم بحميمية، حميمية يزعجنى فيها كما صرحت لها فى هذا الصباح أنا ما زلنا غير قادرين على الامتزاج بعضنا ببعض، أسماء: كيف أستطيع أن أغوص فيك لبعض الوقت ثم أخرج مرتويا !

قلت لها أيضا منذ يومين أننى لا أشعر أن بيننا أى أوقات مفضلة، أو ذرى مرتب الوصول إليها، أشكال نمطية للسعادة، أو أفعال محددة للفرحة، لا مواعيد للشراب أو الطعام أو أحيانا النوم، لا توقيتات للخروجات والفسح والسينما، كل شىء يسير بانسيابية مفرطة، لا نشعر بأن شيئا استوحشنا حتى نكون قد قمنا به قبل أن نصل إلى هذه النقطة بلحظات، ولا نتخيل أن شيئا ما يستحيل حدوثه أو الشعور به فى وقت ما إلا وتفاجئنا الأيام أن ذلك يحدث، ويدهشنا أكثر وأكثر

للعجب تذكرت الآن أن اليوم رغم أنه عادى، إلا أنه أيضا يحمل ذكرى حُلوة، ذكرى نشر أغنيتى لك، ذكرى صوتى الذى صدح عاليا أمام الجميع هى أنت، كنت أتسائل يومها، هل أقولها لك أمام الناس، أم أقولها أمام الناس لك، كنت أشر أن النيات والرغبات متداخلة، وكانت هذا يؤذينى وأغلب الظن كان يؤذيكِ أيضا، أما اليوم فإننى على حالى القديم، أريد أن أكتب لك الساعة وكل ساعة "هى أنت"، أريد أن أكتب كيف أنك كنت لى طيلة هذه الشهور كما لم أتمنى يوما، أنك تهوى وجودى حقا، أن نظرة منك وابتسامة حب تجعلنى أفعل أى شىء وكل شىء بلا كلل، أن الزمن يتوقف والخلود يبدأ فقط عندما أكون بين يديك، عيناى فى عينيك، آه وألف آه.. وغذا العيش فسحة فى الخلودِ

نسيت أن أقول أن الكانولونى اليوم كان رائعا، وقبله الحواوشى كان فاتنا، أما المسقعة فقد وفيت حقها، أما كل يوم فمعك له قصة حب ونظرات وكلمات وأكلات وأفلام ونقاشات وحكايات مستمرة، شغف متصل بشغف، كاتصالى بكوب المانجة المحفوظ فى الثلاجة الآن نختتم به يوما جميلا آخرا 

أكتب الآن لك، رغم أننى ورائى عمل وتقارير نهاية الشهر على أن أسلمها، لكن هذا التقرير هو أجدر بأن يسلم إلى قلبك، وقد كتبت العنوان عله يصلك وأنت فى أوفر صحة وأحسن حال .. 

محبك، أحمد

7‏/8‏/2015

عام من العشق ..



مِلتُ فلما تعلقت هويت .. وأحببت فلما كلِفت عشقت .. هكذا كنت نصفا يهوى إليك، تجذبنى لك كهرباء الحب التى تخلق مجالا من الولَه المغناطيسى حولك، مركزه عيناك ومداره روحك كلها .. نصفُ ظن أنه عندما يلتصق بك فى لحظة العشق سيصير كلا، كما منّى نفسه دائما، لكن الأمر لم يسر كذلك تماما


كلا بل، صار حال الاندماج عاشقا أو معشوقا، أحدث الانجذاب حسرا أو مدا فى نصفه الجامد عبر السنين، لا يمتد إلا بقدر ما تُفسحين له ولا ينحسر إلا بقدر ما تغوصين فيه، حتى إذا تشكلت المساحات من جديد أصبحنا واحدا على الحقيقة اثنين مجازا، فلا يرى نصفى أحد إلا ويعرف من انحناءات أحرفه أن له نصفا يعشق به وفيه، ولا أراه أنا إلا وأعرف من نتوآت روحى ومنحدراتها أنها لا تجمُل إلا بك!


هكذا صار حالى عندما صرت إليك، أصبحت لا أعرف كيف أحب أو أكره، أقطّب أم أمزح، أكتب أو أصدح، دون أن أفكر بك وفيك، فأصبحت قرينى من الإنس والجن معا، تنتقلين معى عبر المكان والزمان بلا قيد ولا شرط، بلا حد ولا سد، مفتوحة نوافذى عليك من كل ثغر لا يرِد عابرٌ أو يشرد خاطرٌ إلا وتعرفينه معرفة نفسك التى بين جنبيك! 


وقد كنت أظن أن هذه الحال لا تلبس أن تخف رويدا رويدا، فيحل السكن محل الشغف، والطمأنينة محل الشوق، والدعة محل التلهف، فإذا باللهفة والشوق والشغف فى ازدياد، وإذا بنسيم الريح تقول عنى - هذه المرة - لرشاها: لم يزده الورد إلا عطشا، لكنه ليس عطش المخُوف الموعود بالسراب، وإنما عطش الطامع الطالب بالمزيد فى دار كتب الله علينا أن كل ما فيها ناقص، ولديه التمام 


تعرفين .. كنت دائما أتسائل عن الحب العذرى، عن علاقة تلك الروح بالجسد، لمَ نحتاج الأجساد طالما كانت الأرواح موصولة، لكننى عرفت منذ العقفة الأولى لخنصرى بخنصرك أن تلك الأجساد التى أودعها الله أرواحنا ما هى إلا رسلٌ لها وعنها، تبلغ رسالات قد عجز الكلام عن إيصالها، ومعان قد قصرت العيون عن تبيانها، نعم عرفت منذ القبلة الأولى على يديك كم كانت الأحرف حبيسة معجم لا يبين، وكم كانت ذرات الهواء الحاجزة بيننا سجانة فيوض لا تلين! 


 اختلاط أنفاسى بعطرك، إلقاء رأسى فى حجرك، مسح دمعة تنحدر على خدك، ضمة منى عندما يُرِح على صدرى رأسك.. من لى بمتع فى الحياة أعظم منها ولو أن لى حمر النعم لما أغنت غنائها، ولا قربت منها، فإنها من فُسح الخلود التى أخبرتك عنها أول يوم، فإن حالها حالٌ وحده دون الدنيا كلها، فيه اللحظة ساعة، والساعة لحظة، فيها يخرج الزمن عن زمنه ويصير وحده دون حساب ولا عتاب.


وحتى تلك اللحظات التى تستبد بنا الحياة وترينا من شرها، وشر ما تبثه بين المحبين فيها، فإن اللحظات التى تليها - بعد أن تذهب سورة العتاب عنا - لا أحسب أنها تفرح لنا بقدر ما تحقد أكثر، ظنا أننا نكيدها، وما عرفت أن ما بيننا لا يذهبه حقد، ولا ينقطع به سبب. 


أى وسمائى .. تعرفين، حتى بعد بلوغ المرام منك، لم أمل صغيرة منك ولا كبيرة، ما زالت عيناك تأسرنى وأسرح فيهما حد التيه فى المهاِمه، وما زال صوتك يأسرنى وأطرب منه حد السكر من الأقداح، ما زالت مشيتك إلى تدهشنى دهشة فتى يَلقى فتاته للمرة الأولى، ما زالت التفاتاتى إليك - نعم - كلها حلوة كاللقاء الأول !


ما زلت وما زدت إلا أن أحب حبك، والحياة قربك، والشغف بكل شىء معك، السفر والترحال أو المكوث على الأريكة نشاهد الأفلام، الوصفات الجديدة فى المأكولات أو الحلوى اللذيذة من المحال، الباقات لك من بائع الورود أو القنينات لى من بائع العطور، كلمات الحب المعلقة على باب الثلاجة أو أبيات الشعر المرفقة فى دفتر استذكار، السهر حتى الفجر أو النوم حتى الضحى، الضحك حد التعب أو الكلام حد الصباح .. تقليب الذكريات وما فات، أو خيالات المستقبل وكل ما بيننا هو آت 


تعرفين يا فتاتى، عامك هذا لم يكن لى عمرا من فراغ، فقد أنشأت خلقا آخر على يديك حقيقة لا مجازا، قد كنت مندفعا حد السيل فأجرانى الله على سدودك نهرا لا يُغرق فيُهلك ولا يزم فيجف، قد كنت جاهلا بالنفوس والقلوب أقول فيها بغير تجربة ولا معرفة فعرفنى قبلك يا أسماء عن البشر ونفوسهم، وتعملت فى مدرستك ما لم أتعلمه عنهم طوال عمرى، قد كنت ما تعلمين، والآن بعد عام أصبحت ما تعرفين، يمر علينا الحدث فأقول فيه برأى غير رأيى القديم فتبتسمين: لقد تغيرت يا أحمد ! 

تعرفين أيضا.. تفاصيل ذلك العام من أول اليوم الذى احتشد فيه الناس إلينا من كل حدب وصوب إلى اللحظة التى أكتب إليك فيها كلها الآن أشعر أنها سبك واحد محكوم، تتداخل فيه التهانى والتبريكات بالزغاريد والزينات، التجهيز والسعى وراء الشقق والأثاث والمرافق والعمال، الفرح والأهل والدعوات، سيوة واسكندرية، أو الحاكم والسلطان، النافورة الراقصة أوهواء النيل العليل، كلمات الأغانى التى تحبين أن أغنيها لك مع ألوان الخُمر التى تقفين لتحكيمها على رأسك وتسألين، هل يعجبك ؟، انحناءة جسدك على لوحة ترسمينها على طرف الفراش أو غلاف رواية تركتيها على المقعد الهزاز قرب الشرفة، صينية البطاطس باللحم من يديك أو الملوخية وورق العنب، خبز ولبن وطماطم ولا تنسى عشر بيضات فقد نفذ البيض يا أحمد، العباءة المغربية والخواتم الفضية وهذا أو ذاك أليق علىَ يا أسماء، التشيز كيك فى سلينترو أو عصير البطيخ من سيتى درينك، الساعات الطوال من المكالمات إذا غبت عنى يوم أو يومين، التفنن فى الاعتذار بين كل خطأ وخطأ حتى أرضى وترضين، كل التفاصيل الصغيرة عشقتها معك فى ذلك العام.

عام من عشقك يا سمائى .. عام من الأيام الحلوة التى لم يمر منها يوم إلا قلت قد بلغت، تالله قد جربت اليوم لذة لم أبلغها قط قبل، فأبلغ فى اليوم الذى يليها ما يذهلنى عنها ويعرفنى أننى لم أصل بعد، فالحمد للمنان على ما امتن به على عبده، والحمد للوهاب على ما وهب به أمته، الجنة نسأله، والستر والعفو منه نطلبه.. أدامك لى، هنا فى هذه القنطرة، وهناك فى المنتهى.. حيث أنت والنعيم إلى أبد الآبدين

1‏/10‏/2014

عودة الروح

 - أحمد .. أوحشتنى كتاباتك 
- آخر مقال كتبته أول أمس، على الموقع نزل 
- لا أنت تعرف .. أوحشتنى تدويناتك .. تلك الروح التى كانت تسرى فى البيارق، وأوائل التدوينات على الفيس بوك: عندما كنت تكتب لنفسك، وليس للناس، للمتابعين، لعشرات الآلاف منهم

.............

آخر تدوينة كتبتها هنا منذ أكثر من عامين، ربما آخر تدوينة حقيقية كتبتها هنا دون أن اضطر لكتابتها مرة ثانية على "الفيسبوك" حيث التفاعل والصخب يعود تاريخها لعام 2010، أتذكر الآن كيف بدأت تلك التدوينات، كانت بالنسبة لى مدونة "مطبات" لمحمد رفعت شىء كالمعجزة، أن أكتب ويقرأ لى الناس ويعلقون، يا لها من معجزة، بعد شهرين قررت أن أطلق مدونتى، قررت أن أطلقها فى يوم الشجن العالمى الخاص بى، 10/6 .. الذى وافق هذه المرة أن أتم فيه عامى العشرين، كتبت لأول مرة "عندى عشرون" وكانت ولا زالت التدوينة التى أعرف بها، حتى أن كتابى الأول تجد أن أى شاب عشرينى يمر على هذه الكلمات فلا يملك سوى أن يقتبس منها على صفحته، لكن كانت صرخاتى الخاصة التى وددت إطلاقها فى الفضاء غير مبال بمن سمع أو لم يسمع ! 

الحياة هنا كانت مختلفة، كانت جميلة، كل منا يدخل إلى مدونته مرتين أو ثلاث مرات فى الأسبوع، يتأنق فى وضع الصور التى تزينها، أبيات الشعر التى تعبر عنه، روابط الموسيقى التى يحبها، يكتب كل أسبوع أو شهر تدوينة، ينمقها على مدار أيام طوال، ينشرها وكله شغف أن يجد تعليق أو اثنين، وعندما يجد التعليقات تقفز فوق العشر يفرح، يتابع الكلمات الرقيقة والجادة التى تعلق على نصه المحبب إلى نفسه، و ... أرانى قد تهت عن الموضوع الأساسى الذى أعادنى هنا، وظننت أنى أكتب مرة ثانية إلى الجماهير، تبا! 

عدت هنا من أجلك، من أجل أن أكتب لك دون الناس ولا أبالى أشعروا بالأمر أم لا، جئت هنا ومنذ اللحظة الأولى التى بدأت أكتب فيها وفمى يصنع معزوفة قديمة يدندنا فى سلوك كدت أنساه، أشعر أن هذه الصفحة ليست مجرد وسيطا، وإنما كأنها روح، روح تتلبثنى، روح تختزل جزءا هاما من تارخى، اليوم وأنا أكتب عليها من جديد، كأنما أحكى لها حكايات جديدة، أنت التى سمعت تلك الأقاصيص والتى عرفتُ الآن أنها كانت صغيرة وزائلة، تعالى يا صغيرتى أقص عليك القصص القصص، تعالى أخبرك بالحواديت الطويلة التى لا أحصيها عن تلك الفتاة .. 

نعم تعرفين لقد وجدتها أخيرا، ربما أخبرتك متأخرا لكننى كل هذا لم أكن قد أفقت من السكرة بعد، ولم أفق حتى الآن، لكننى تذكرت أن أحكى لك عندما عرفت أن فتاتى تحب كلماتى التى أحكيها لك .. هنا 

فتاتى .. تريدين أن أحكى عنها، وكيف يحكى الإنسان عن ما لم يحط به، كنت أحكى قديما لأن الصورة التى أحكى عنها كانت محدودة، كان ألمى أو فرحى أو رحلاتى أو أحلامى كلها ماثلة فى أطر تحدها الحروف والكلمات، بل وتبالغ فبعد أن تحدها تضفى عليها ما تضفيه، أما الآن فصورتها لا أكاد أحيط بها .. أبدا أبدا

لم تنته أسماء - هذا اسم فتاتى - من إبهارى بما هى عليه بعد، فى كل يوم أقابلها فيه أدرك معنى جديدا من معانى الجمال لها تجعلنى أرجع عن قول قديم كنت زورته لها، لا اليوم هى أجمل من الأمس، على أن أقول فوق الذى ظننته، كل ساعة أنظر لها فيها وتقع عيناى على عينيها أقول مرة هامسا ومرة صارخا، من أين لك بهاتين العينين، هل أنت أنت من قابلتها الأسبوع الماضى وأقابلها منذ زمن، ولم تسرى تل الرعشة فى جسدى عندما أراك مثلما سرت أول مرة .. لماذا يا ترى ؟

حسنا لقد حاولت أن أكتب كالماضى، ولكنى فشلت، لم يكن قلمى ساعتها يحتبس أو يخجل أو يحار كما هو الآن، ترى ما الذى أبدأ به، دائما تكون العينان موضعا مناسبا للمبتدى والمنتهى على السواء، لكن عينيى أسماء هى موضوع للتيه، إن دخلته لن أخرج، وإن خرجت منه سأطلب العودة، ولا مفر ! 


ليس فقط لأنها تجمع لونى الشروق والغروب، ليس فقط لأنها باللون الذى أهيم به دائما، لون التاريخ والبيوت والأسفار، على معنييها، أسفار الناس فى الصحارى على الجمال، وأسفار الكتاب بورقها القديم، كل ذلك يشعرنى أن عيناها ليست إلا دواة قديمة لحبر معتق أكتب به من الأحلام والأيام ما شاء الله لى أن أكتب، فقط عندما تتوقف الشمس عن المغيب، سيتوقف افتتانى بعينى أسماء 

آه .. وكل ما فى أسماء حسن، تعرفون لم، لأن الجمال دائما يكمن فى التفاصيل، وأسماء مولعة بها، مولعة بالمنمنمات، بالأقصوصات، بالأطفال الصغيرة، والحكايا الصغيرة، بنقوش حناء النساء، بزخرفات قباب سمرقند، مولعة بالحلوى الصغيرة، بروائح البخور والعطور والبهارات، معلقة بكل الأشياء الجميلة .. الصغيرة مثلها

نعم مثلها، مثل قلبها الطفل الذى لا أظنه قد كبر أو رأى من أهوال الدنيا فى يوم من الأيام أبدا، تظن أنها عندما تغضب منك أن قديمها ستدبان فى الأرض وشفتيها تلتويان حتى تصالحها كالأطفال الصغار، وتظن أنها عندما تفرح أنها ستتعلق برقبتك وتقبلك على وجنتك قبلة طفلة فى يوم عيد .. 


تأخذ أجمل ما فى الأطفال : البراءة، وتترك أثقل ما فيهم : قلة العقل، فهى عندما يحزب الأمر تراها بعدما كانت صغيرة ناعسة بين يديك - تراها وقد تبدلت وكبرت فجأة كبرت بحيث تستطيع أن تفرد ذراعيها فتسد كل عين تصوب نحوك، وتجد نفسك مختبأ خلف ظلها كطفل يحتمى بأمه ممن يريدون أن يعبثوا به .. كقطة وادعة كشرت عن نابها وبرز مخلبها عندما شعرت بخطر على صغير لها

تعجب كيف يكون هذا وذاك فى امرأة واحدة، لا فلبرما هذا هو الأصل عندها أنها تجمع بين كل جميلين وإن كانا من عالمين مختلفين، فهى حولة الضحك عذبة الدمع، وهى رقيقة الانكسار قوية الصمود، وهى زاهدة العيش مفعمة بالحياة .. هى من هى .. هى أسماء .. هنا ابتدى الحكى عنها، وهنا لن ينتهى أبدا ..

أسماء .. أنا أحبك ..



10‏/3‏/2012

فلول أمن الدولة العربى !

३/8/2011

مرهقا أنتظر ختما أخيرا على جوازى من موظف بدأ يبدى بعض علامات العجب عندما ضرب حروف اسمى على جهازه .. أبادره : هل من مشكلة ؟

- لا أبدا المشكلة من عندى على الجهاز .

يتريث قليلا ثم يختم بالفعل على الجواز ختما للدخول وتحته ختما للخروج فى آن .. ينظر مرة أخرى قبل أن يضغط على زر الإدخال فى حاسبوه ثم يتوقف فى اللحظة الأخيرة .. ينادى على زميل له فى العمل .. يتطلع فى الشاشة المحجوبة عنى ويبدى بعض علامات الدهشة هو الآخر .

يتبادلان بعض النظرات من باب "لا مشكلة" ، فيرد الآخر بنظره من باب "على مسئوليتك" فيكر الآخر بنظرة ختامية "لن أتحملها" .. وحينها يتوجه زميله بجوازى إلى مكتب مغطى زجاجه بأوراق داكنه فى الجهة المقابلة ويبتسم الأول فى وجهى ، عذرا سنتظر لدقائق .

"دقائق الانتظار املأها بالاستغفار" أطالع الملصق المستطيل المشهور الموضوع على زجاج الشباك الزجاجى الذى يحيل بينى وبين الموظف الذى أخذ يتقى نظراتى ، يرتد بصرى فجأة لأتأمل ملصقا بجواره مشابها طبعت عليه جملتان حسبتهما حديثا أو آية قرآنية كالعادة ، هى بين علامتى تنصيص كالعادة ، لكن يبدو أنها مقولة لأحدهم :

" انتهى عهد التخريب .. وإن عدتم عدنا ، وستكون عودتنا أقوى " .. وتحتها كتب اسم القائل : حمد آل الخليفة .. نظرت إلى الاسم وبدأت أطابقه بعشرات الملصقات الأكبر والأصغر التى ما زالت تصافح عينى منذ وصولى للمطار وعليها عبارات شبه موحده "كلنا فداك خليفة" "حمد كلنا فداك" وصورا لأخينا فى كل الأعمار ، وأحيانا يضعون معه صور أخيه فى الرضاعة العاهل السعودى فأزداد اتشاحا عن المنظر .. زورت فى نفسى الحمد لله الذى عافانا ..

دقائق وبرز لى من المكتب الذى أمامنا شاب ثلاثينى يلبس "الدشداشة" والعقال ويبتسم فى وجهى البتسامة عرفتها من النظرة الأولى ، وبدأ يسأل أسئلته المتوقعة :

حمد أليس كذلك ؟

- نعم .

- من وين جاى يا أحمد ؟

- (ما هو مكتوب عندك يا متخلف) من كوالالمبور سيدى .

- أحمد شنو بشتغل ؟

- (وانت مال أهلك) أعمل فى مجال الأفلام الوثائقية يا فندم .

- أخذ يتأمل فى الإجابة كمن فهم شيئا ثم ختم بنفس الابتسامة الصفراء ودخل المكتب ثانية .

كان صديقى الغزاوى وليد قد أنهى إجراءاته وينتظرنى ، أقتربت منه أسر إليه : يبدو أن هذه المرة أنا من سيعطلك لا أنت ، سنكون متساويان الآن مرة أنت ومرة أنا .

- ضحك وأردف : ما الأمر

- لا يمكننى أن أخطأ هؤلاء ، هذا رجل من أمن الدولة ، أو أيا يكن اسم هذا الجهاز اللعين هنا .

- أويعقل ، وكيف تصلهم معلومات عنك .. هل أوقفت فى مطار القاهرة وأنت قادم ؟

- بالطبع لا ، ولم أتوقع الأمر هنا مطلقا ، ولكن يدبوا أنهم لم يسمعوا بالثورة بعد ، وإنا لمسمعوهم يوما .

خرج الرجل السمج من المكتب مرة ثانية أوصل جوازى إلى الشباك وطلب منى استلامه من هناك ، وقفت أمام الموظف .. أخرج قلما وأخذ يشطب على الختمين ويكتب على كل منهما بحروف عربية ناصعة "ملغى" .. "ملغى" .. ويكاد القلم يستحى عبره من ختمين مجاورين مكتوب عليهما بحروف لاتينية "مرحبا" "مع السلامة" ، لم أستغرق سوى ثوان أمام موظفة ماليزية محجبة حتى حصلت عليهما .. يتقى نظراتى مرة أخرى ويسلمنى الجواز ، عفوا اذهب مرة أخرى للمكتب السابق وسخبرونك بالوضع الجديد

نطقت عنه فى صمت : عفوا أنت ممنوع من دخول دولة البحرين حتى لو كانت الزيارة لا تتعدى عشر ساعات .. عفوا دولتنا وكياننا أضعف من أن يتحمل وجودك الصورى على أراضيه .. عفوا إننا ملتزمون بسنن الله فى الأرض "أخرجوا آل لوط من قرتكم إنهم أناس يتطهرون"

استعرت ابتسامة صاحبنا السمج ورددت : فلا عبرت بى ساعة لا تعزنى ॥ ولا صحبتى مهجة تقبل الظلما ॥والشرف لى سيدى ألا أطأ بلادكم المحتلة وأنا الحر الثائر أبدا ..

توجهت لموظف الشركة مرة أخرى ، اعتذر لى بحرارة ، وسلمنى صكا بوجبتى غذاء وإفطار فى هذا "الترانزيت" الذى يستغرف عشر ساعات قبل وصول طائرتنا الأخرى إلى المطار ، سلمته الأوراق الخاصة بالمبيت لليلة واحدة فى أحد فنادق المنامة وأنا بنفس الابتسامة المستعارة .

توجهت لقاعة الوصول أتدبر أمرى ، اتصلت بأهلى أطمأنهم على كما وعدتهم ، تبسمت نبرة أبى عندما أخبرته بما حدث وقال : تحيا الوحدة العربية .

صدقت يا أبى .. تحيا الوحدة العربية ، الوحدة العربية التى بنت أنظمتها الفاسدة بلبات مختلفة لكنها ربطتها برباط واحد للدرجة التى عندما أستجوب فيها بضعة أيام فى القاهرة على جريمة دخولى إلى غزة خمسة أيام ، دون أية محاكمة أو أية عقوبة ، تسمع بالنبأ دولة خليجية ، فتضعه على أجهزة دولتها الرسمية ، وإن سمعت به الخليج فأولى بالسماع السعودية وسوريا والجزائر والأردن ، إنها الوحدة العربية .

إنكم تخدموننا بهذا الرباط الوثيق ، ونعم إن تخوفكم فى محله ، فإن بلدا تقع لهى نذير بسقوط الكل ، الكل لا محالة ، وأنتم أولى بهذا يا أكشاك الخليج ، أنتم مجرد أكشاك على الخليج العربى ، ولن ينفعكم درعكم ولا مجلسكم إذا دار دوركم ، ووالله إنى لأؤيد الثورة حتى لو قام بها شيعة ، حتى لو قام بها الفلبينيين فى أرضكم ، وإن دولة كافرة عادلة ، هى أقوم – كما قال ابن تيمية – من دولة مسلمة ظالمة ، فإن الأولى تضمن حرية الدعوة للإسلام فيرتجى من أصلابهم خيرا ، والأخيرة تفتن المسلمين فى دينهم ، وتصد الكافرين عن الإسلام بظلمها .

صبرا أيتها الممالك وصبرا يا بلاد الحجاز ، فأنت من الآن بلاد الحجاز لا ما تسمونه "السعودية" أى اسم هذا يعل فى الأرض ويتجبر حتى يسمى أرضا وشعبا باسمه ، فإن أشرف البشر لم تقم له دولة "محمدية" ولم يتجنس قوم باسمه الكريم فكيف أنتم ، ووالله لقد رأيت فتوة بلاد الحجاز القادمة فى فتية وفتيات أربأ بنفسى أن أدعوهم سعوديين وسعوديات ، هم حجازيون سيضربون اللحن الأخير فى معزوفة ثوراتنا .. والله الوكيل .

نزلت إلى المسجد تضطرم فى رأسى هذه الأفكار ، أحمد الله أن الموقف بعث أحاسيسى الثورية من جديد ، ما زال الطريق الثورى طويلا ، بخ بخ يا ثوار ، صليت المغرب والعشاء ، يالله إنها أول ليلة من رمضان .. نظرت إلى الوجوه العربية والمسلمة من حولى ، وجوه ماليزية وأفغانية وهندية وخليجية وعراقية وشامية ، دعوت الله أن ينظر لنا نظرة فيرحمنا ويزيل بنا حكاما أنجاسا مرتكسين .

أفترش ثلاث كراسى متجاورة وأتوسد حقيبة كتفى ، وأتقلب من برودة المكيف وأحاول أن أنام سويعات تدفع عن بدنى هجوم دور البرد الذى بدأ يفترسه حتى طلعت الشمس ولم أفق إلا على النداء : يعلن طيران الخليج عن قيام رحلته رقم 71 إلى القاهرة ، على جميع الركاب التوجه إلى بوابة 32 .

قمت وصليت ركتى الضحى واتجهت نحو البوابة أجد وليدا فى انتظارى يشتملنى بنظرات يحاول بها التخفيف عن وطء ليلتى .. بادرته : لم يكن الأمر سيئا ، على الأقل ليس بالسوء الذى كنت تواجهونه على معابرنا قبل الثورة .

- ضحك ضحكة خفيفة : وأنت الصادق ، وبعد الثورة أيضا .

- نظرت فى دهشة ، أستنطقه .

- ألا تعلم أن اثنين من غزة كانا معى وتم رفض عبورهما على الأراضى المصرية ، ومن ثم سفرهما إلى ماليزيا لأن اسمهما على الكشوفات الأمنية .

تيبس الدم فى عروقى ، بهت للحظات ، انطلقت الكلمات كسيفة أسيرة فى فمى : أجل صاحبى ، تهمتنا واحدة "غزة" تهمتكم أنكم من غزة فلا تطيقكم مصر ساعات عابرة ، وتهمتى أننى ذهبت إلى غزة فلا تطيقنى البحرين ساعات عابرة ، وما غزة إلا خروجا عن النظام العربى ، وما غزة إلا دولة واحدة وحيدة بلا جهاز أمن للدولة ، لا والله إنه جهاز رعب الدولة ، رعب كل دويلة من هؤلاء من أمثالنا ، من ثورتنا التى لن تبقى ولن تذر فصبرا .

ثلاث ساعات وكنا فى مطار القاهرة ، ملأت الاستمارة المصرية للعبور ، وملأ وليد استمارة عفوا "أجنبية" مررت فى ثوان وانتظرته من خلف فاصل حديدى ، نظر الضابط فى جوازه وأشار إليه بالانتظار .

انتظر قليلا ثم خرج رجل يبسم ابتسامة سمجة من مكتب فى الجهة المقابلة مغطى زجاجه بأوراق داكنة ، سلم عليه ورأيت شفتاه من بعيد تنطق بلسان عربى مبين من أين أتيت يا وليد .. ماذا تعمل ؟ لكنها لم تكن أسئلة كافية ، ولم يكن لسان وليد العربى أيضا لسانا شافيا ، اصطحبه معة إلى دهليز يطل على المكتب واختفيا .

انتهت إجراءاتى ، تسلمت حقائبى ، لم يظهر وليد ، ولا الرجل السمج الذى أخذ بيده ، سألت آخرين على باب الردهة ، أبحث عن صديق فلسطينى ، نظروا لى بريبة أشاروا لى بالدخول دخلت فى الردهة الطويلة ، وفجأة أغمضت عينيى وأخذت أتذكر ردهة مشابهة فى مبنى "لاظوغلى" معصب العينين أمضى وأمر على أضواء خافتة تنبعث من المكتاب مكتبا تلو الآخر وبشر يجلسون القرفصاء منكسوا الرؤوس ، فتحت عيناى على أحدهم هناك يجلس القرفصاء منكس الرأس .. ارتبكت قدماى وكدت أسقط ، سألت أحدهم مرة أخرى : فلسطينيى أحبث أنا .. لا ترهق نفسك سيتم ترحيله على بلاده .. امض أنت

مضيت على دقات أهلى الهاتفية يستحثوننى للخروج .. مضيت ومكث الفلسطينى .. مكث وأتى اليوم قبل ساعات ليخبرنى أنه لم يمض فى مطار القاهرة عشر ساعات بلا مأوى ، بل أمضى اثنين وعشرين ساعة بلا مأوى بعدما حقق معه .. ثم رحل عبر المعبر ..

هتفت هتاف أبى "تحيا الوحدة العربية" هتفت صبرا فلول أمن الدولة المصرى والخليجى ، يوما ما سيكون تجوالنا فى بلادنا أيسر من الثوانى التى انتظرناها على شباك جوازات ماليزيا ، ماليزيا البلد التى لا توحدنا بها جغرافيا ولا لغة ولا تاريخ وكان هذا مثالها معنا .. صبرا إن موعكم جيلنا .. أليس عهد جيلنا بقريب ..

8‏/3‏/2012

الإنسان .. والعَلاقة !

ما الإنسان ، الإنسان هو ذلك الكائن الربانى - مهما شابته الشوائب وغلبت عليه – الذى خلقه الله بإبداع فى مفرده ، وإبداع أعقد وأعجز فى مجموعه ، إذ اختلاف ألوان البشر وأشكالهم ليس أكثر إبهارا من اختلاف نفوسهم وعقولهم وقلوبهم ، التى لا يملكها جميعا إلاه ، ولا يملك بعضا منها إلا من أعطاه الله بعض أسباب ائتلافها "لو أنفقت ما فى الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم" .

وما العلاقة ، العلاقة هى روابط منفصلة عن الإنسان مقدرة كجميع أقداره ، لكن منها ما جعله الله جبرا ظاهرا عليه كالأب والأم والابن والأشقاء وكل ما تفرع من صلات قرابة ، ومنها ما جعله الله خيارا له ، بداية من أعقدها على الإطلاق "الزواج" إلى كافة أشكال العلاقات على وجه الأرض صداقات ومنافع وتعلم وجيرة وعشيرة .. إلخ .

وإذن فهناك من العلاقات ما لن تستطيع أن تفصلها عن الإنسان ولا بموته حتى وهى العلاقات الجبرية ، وفى المقابل منها ما ننشؤه بإرادتنا ونقطع دابره بإرادتنا أيضا ، قد تساعدنا الظروف فى هذا أو تساعد علينا ، لكن فى كل الأحوال غالبا ما يعلق مصير العلاقة على قرار الإنسان نفسه .

وإذا كان الإنسان قد خلقه الله فردا وسيحاسبه فراد ، فإن العلاقة خلقها الله – فهى مخلوقة أيضا بقدره وحوله – أعقد من ذلك ، خلقها زوجين (أعنى طرفين) أو أكثر ، ورتب حقوقها وواجباتها على كلا الطرفين ، ولم يستثن الله إنسانا فى الكون دون أن يرتب له "علاقة" مع الإنسان الآخر لها حقوق وواجبات ، مهما كانت ماهية هذا الإنسان ، ولعمرى فإن آية فى القرآن أراها جمعت نوعين من العلاقات أعقدها وأبسطها وهى قوله سبحانه : "يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" ، فابتدار الذهن عند من الله علينا بخلقنا ذكرا وأنثى هى تلك العلاقة الشرعية بينهما الحافظة للخلق والموصلة للخالق ، ثم تشعيب العلاقات بعد الذكر والأنثى إلى الشعوب والقبائل وبينها ما بينها من البون الشاسع والاختلاف الهائل لا يفضى إلى انعدام أى علاقة بالكلية ، بل يوجب أن تكون هناك بحد أدنى علاقة "التعارف" ، والتى لو تأملنا فيها وجدناها بداية للكثير من العلاقات بين الزوجين (بداية الآية) فى كثير مما يقع بين الناس .

والعلاقات هى فى الأصل نوع من التواصل بسبب ما ، فالإنسان الذى لم أتواصل معه بأى شكل كان ، والذى يعيش فى ركن ما من أركان المعمورة ، لم أره ولم أسمعه ولم أكاتبه ، فقطعا لن تكون ثمة علاقة بيننا ، والإنسان الذى قابلته مرة أو مرات ثم انقطعت بيننا السبل – وهو حى – بسفر ونحوه تبقى علاقتى به رهن بأسباب الوصل بينى وبينه ، ولذا فإن فى الأزمان الغابرة كان السفر والترحال وسوء الاتصال يفقد المرء علاقات كثيرة لو دام معها الاتصال لأنتجت خيرا كثيرا ، وهو ما انتفى فى عصرنا هذا ، إذ لم يعد هناك من تخشى أن تفقده فى هذا العالم شديد التشابك ، وبالتالى فإن المسئولية تجاه العلاقات صارت أوثق بكل المعانى .

ولكن ما دامت الأمور بهذا الوضوح فما المشكل إذن فى الأمر ، ولم يخسر بعض الناس بسبب علاقاتهم التى جعلها الله سبيلا لحياة أفضل ، ولم تنتج بعض العلاقات السلبية من العداوة والقطيعة والتخاصم والتحاسد – وكلها علاقات – فى غير موضعها ، لأنها موجهة لأناس لا يحق فيهم هذا بموجبات كثيرة سنها الله لخلقه ونظمها بين عبيده !

إذا عدنا إلى طرفى المعادلة نجد أنه يصح الابتداء من أيهما ، فقد يقابل الإنسان شخصا ما يتعرف عليه بقدر ما ، دون أن تكون هناك أى نية مبيتة لعلاقة محددة تعقب هذا التعارف ، ويظل كلاهما يتعمق فى الآخر ويكتشف مدى القرب والانسجام ، فيقرر أحدهما (أو كلاهما) ساعتها أن يحدد ملامح علاقة ما بينهما ، فنرى أنه يشاركه فى تجارة أو علم أو نسب .. إلخ ، وقد يحدث العكس عندما يتقابل شخصان وأحدهما أو كلاهما يعقد النية على علاقة معينة محددة من قبل ، كأن أذهب لمقابلة فى شركة فأتعرف على الشخص الذى يجرى معى المقابلة ، أو أذهب إلى محاضرة وأقيم علاقة مع المحاضر ، فتكون هذه العلاقات محددة سلفا وقد تتطور وتنتقل إلى الإنسان ذاته ، وقد لا تتطور وتقف على حد العلاقة نفسها دون الإنسان .

ففى الوجه الأول من التعارف أنت تقدر الإنسان لذاته ، فيدفعك تقديرك وإكبارك له إلى أن تتشاركا معا فى سبل الحياة عبر تلك العلاقات التى كلما زادت كلما تصاحبتما وتدانيتما أكثر ، وفى الوجه الثانى أنت تقضى حاجاتك أولا ثم تنظر لما وراء تلك العلاقة من الإنسان هل يستحق بذاته أن يقترب من نفسك أكثر ، أم أن دوره سيقتصر على تلك العلاقة متى تنتهى ينتهى معها .

والناس يخلطون كثيرا فى الوجه الأول بين الإنسان الذى عرفوه ولم يتغير ، وبين العلاقة التى أنشئوها وقد تتغير وتتبدل ، فترى الصاحب يجافى صاحبه إذا تشاركا فى تجارة وخسرت ، وترى الزوجين يتحولان إلى أعداء إذا انفصلا ، وترى أى طالب لفتاة كمن يطلب الملك ، إما أن يفوز فإلى الصدر وإما أن يخفق فإلى القبر .

وما ذلك إلا أنهم قد أغشاهم عالم العلاقات المرتبط بعالم الأشياء المادية عن عالم الأشخاص المرتبط بعالم الأفكار والمشاعر المعنوية ، فهل صاحبك الذى فشلت معه تجارتك تغير فى ذاته ، هل كان صاحب خلق فتخلى عنه ، أو صاحب علم فبار لديه ، وهل خاطبك أيتها الفتاة كان طيبا خلوقا طالما عرفتيه وسمعت عنه من بعيد حتى إذا ساقه حظه التعس إلى القرار بطلب علاقة بينكما ، ولم يكتب للعلاقة التوفيق ، كتب للإنسان نفسه ذات المصير ، وهو على حاله وأنت على حالك من التشارك فى دروب الحياة التى يتشارك الناس فيها لنفع الأمة وعمارة الأرض ، فإن لم يكن خطؤكم فى حق هؤلاء أن يظلوا محتفظين بمكانتهم الإنسانية عندكم ، فحق الأمة ألا تحرم نفع تلك العلاقات وأثرها فى المجتمع بأسره .

والناس أيضا تخلط فى الوجه الثانى من العلاقات ، فيطالبون أحيانا كل من يكون بينك وبينه علاقة محددة سلفا أن يكون أكيلك وشريبك وجليسك ، وقد لا ترى فى هذا الإنسان أن يأخذ فى نفسك تلك المنزلة وهذا حقك ، ولو شاكك حتى نصف وقتك فى الحياة فكان زميلك فى العمل أو فى الدراسة الذى تمكث معه جل النهار ، ولكن من فرض أن الذى يبدأ بالفرع حتما سيصل إلى الأصل ؟ ، ليس صحيحا ، فقد تقتضى الحاجة فى "العلاقة" وليس شرطا أن تقتضيها فى "الإنسان" ، والذين يخلطون أيضا فى هذا الوجه يكتشفون بعد الفوت أنه غمى عليهم ، وأن من أدنوه من أنفسهم لم يكن يستحق هذا ، وأنه أغراهم علاقاتهم به الظاهرة والمؤقتة .

وأصدق ما يروى فى هذا هو موقف عمر بن الخطاب من قاتل أخيه فى معركة اليمامة ، فقد أسلم الرجل بعدها ولقيه ابن الخطاب وهو أمير المؤمنين فقال له : والله إنى لا أحبك حتى تحب الأرض الدم ! ، فقال الرجل : يا أمير المؤمنين، أوَ يمنعني هذا حقي؟ قال: لا. فقال: أيحل هذا جَلد ظهري؟ قال: لا .. فقال الرجل: ما لي ولحبك إنما يبكى على الحب النساء ؛ فهنا أمير المؤمنين بينه علاقة وهذا الرجل ألا وهى الحاكم والمحكوم ن لكن الرجل يعرف جيدا أنه لا ريدي أن يتعداها ، ولما اطمأن أن هذا لا يؤثر على علاقته التى شرعها الله انصرف عن طلبه ما وراء هذه العلاقة .

والناس منذ زمن لا تكف أيضا فى الخلط بين الوجهين ذاتهما ، فعندما تقدم على الزواج مثلا قد تقدم "العلاقة" على "الإنسان" نفسه ، حتى إذا حدث للعلاقة أى خلل أودت بالإنسان نفسه ، ولا تلبث فى غالب الأحوال أن تستمر أصلا ، لأنها مبنية على الفرع والأساس هنا أن تـُبنى على الأصل .

ومهما أخفيت فإنه غير خاف أننى ما قصدت بكل هذا إلا العلاقات العاطفية تحديدا - مع خطورة غيرها أيضا- التى ما زالت تحط أقواما وترفع آخرين ، وقلما أجد نماذجا تستطيع أن تنتهى العلاقة بينهما فى أى مرحلة - من أول الفشل فى التقدم إلى فسخ الخطوبة إلى الطلاق بعد سنين – دون أن يمحو أحدهما أو كلاهما الإنسان نفسه من خريطة حياته ، وما يكون مقصد الإنسان الذى يقدم أصلا على العلاقة ؟ ، أليس تعميق الصلة والاحتفاظ بمكانته عبر الزمن ، أفيكون جزاؤه بعكس مطلبوه ، وهو قائم فى صفاته وأفعاله التى لو نسبت بقدها إلى اسم آخر كانت له مكانة أخرى من النفس ، فأى ظلم يحيق به ، وأى ضيم يحط به .

يوما ما كنت جالسا مع فتاة فى حضرة أبيها ، فقلت لها من أحب الناس إليك ، قالت : أبى ، قلت لها إجابتك منقوصة ، إذ أن هذا الشخص الجالس معنا لو لم يكن أباك لما أحببتيه وهو أعظم من ذلك حتى لو لم يكن أباك ، فقالت : وكيف ذاك ، قلت أوما سمعت الصحابى عندما سأل سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم ) من أحب الناس إليك ، لم يقل "زوجتى" وقال "عائشة" ، وعندما سأله : ثم أى ؟ ، قال "أبوها" ، ليس من باب تقديم "العلاقة" على "الإنسان" فهو يحب أبا بكر قبل أن يعرف عائشة ، وليس لمجرد أنه حموه ، ولكن من قبَل المبالغة فى إكرامها وإكرام منزلتها لديه .

فها هو أعظم الناس قدم "الإنسان" على "العلاقة" فى تعبيره عن حب أعز الناس له ، فيا أيها الناس ، إن لكم علينا حقا ، ولنا عليكم حقا ، ثابت طالما ثبتت نفوسكم التى عهدناها فيكم ، لا يتدبل ولا يتغير مهما تبدلت العلاقات وتبددت .

7‏/3‏/2012

الألم

تـُرى أى العلل يشكوها المرء أكثر ، علل الروح أم الجسد ، وتُرى أيهما أسبق ، أو أيهما تورث الأخرى ، أيهما تُشفى ولا تنتكس ، وأيهما تندمل ولكن تُنكأ ، أيهما يصلح المسكن لها .. فيخفف آلامها ، وأيهما تستدرجها المضادات إلى عالم الآثار الجانبية ، أيهما يرثى الناس لحال صاحبها ، وأيهما يهونون من شأنها .

أسئلة تملكتنى لأيام خلت ؛ فأنا لا أتذكر أن علة أصابت جسدى إلا إذا كنت فى أمس الحاجة إليها .. إلا عندما يكون الألم قد تملك روحى ولا أجد سبيلا كى يعرف الناس به فيشفقون على ، فأتمنى ساعتها أن يكون الداء ظاهرا ، حتى يكون لى مجرد الحق فى طلب الراحة ، أتذكر أيضا أن الداء الجسدى إذا جاء بلا علة نفسية فلا أكاد أذكره ، يأتى سريعا ويذهب سريعا ، كضيف حل فى غير موطنه ، فلا يلبث أن يرحل.

ولكن إذا كنا ندعى كثيرا أن الروح هى الأساس ، فلم لا يسترعى انتباهنا عليلو النفوس ، لم إذا قال أحدهم " اعذرنى أنا تعبان نفسيا هذه الأيام " ضحكنا ملء أشداقنا " شكلك بتحب .. ههههه " ، وإذا قال " أصابتنى نزلة برد " تغير لوننا وانكسرت نبرتنا " ألف سلامة عليك " .. لم يمكنـُك إذا أخبركَ الأولى أن تردف قائلا " طيب تسلمنى شغلك بكره وتبقى تحكيلى بعدين " ، وإذا كانت الثانية " طب نام واتغطى كويس وفى داهية الشغل .. أهم حاجة صحتك " ، لم نجد طبيبا واحدة لعلل النفس يسمى الطبيب النفسى ، يعافه الجميع ، ويربطونه بالأمراض العقلية ، ولم نجد لكل سنتيمتر فى الجسد طبيب متخصص أنف وعين وأسنان وقلب وجلد وظفر ..

الإجابات الجاهزة لدى "الإسلاميين" تبدأ بقوله تعالى " ألا بذكر الله تطمئن القلوب " وبالطبع لا تنتهى ، لكننى حتى الآن لا أجيد الخلط بين خطى العلاقة مع الله والعلاقة مع الناس من الزاوية التكميلية ، أى أننى إذا ضعفت علاقتى بالله لا أستطيع تقويتها بعلاقتى مع البشر كذا العكس هناك نوع ما من ألم النفس لا يمنع القرب من الله أن تشكو منه ، وما كان عام الحزن على نبينا - عندى - إلا من هذا القبيل ، فلماذا إذا تألم حلقك قالوا خذ بالأسباب واذهب إلى الطبيب ولا يقولون تقرب من الذى بيده الشفاء ، وإذا تألمت نفسك قالوا : ذنوب تكاثرت ، حافظ على وردك .

آلام الجسد تدهشنى قدرة المسكنات على إخمادها ، تأخذ كل مسكن فى موعده ، حتى ينتهى تأثيره فتأخذ الذى بعده إلى أن تنتهى المضادات الحيوية من عملها، وتعود بعد أيام لحالتك الأولى ، أما آلام النفس ، فهيهات ، سكونها ما هو إلا محض تلاهٍ عنها ، حتى إذا عدت إلى تفسك وجدت الألم أعظم .

آلام الجسد إذا استفحلت قد يُستأصل موطن الألم ، أما آلام النفس أنى لها ذلك ! ، آلام الجسد قد تشفى ولا تنكأ ، أما آلام النفس فلا يوجد جرح فيها لا ينكأ ، لا يوجد ، أنا لا أذكر مرة مرضت فيها لأنى تذكرت أن فى مثل هذه الأيام من العام الماضى كنت مريضا ، لكن كم مرة بت ليلتى أتقلب لأن صباحى صباح عام جديد على ألم قديم .

آلام النفس تنكئها الكلمة ، و الهمسة ، والغمزة ، والإشارة .. آلام النفس يهيجها لحن ، أو دمعة ، مشهد غروب أوصوت كروان ، صافرة قطار أو مرجل باخرة ، تأتى توا ، بلا ارتفاع تدريجى فى الحرارة ، ولا صعوبة فى البلع ، ولا سعلات متفرقة فى اليوم ، ليس لها أعراض .. ليس لها أنواع من الطعام دون أنواع ، ولا ألوان من الشراب دون أخرى ، كل الأنواع والألوان تصبح فى ألم النفس طعما واحدا بلا لون .

عليل الجسد إذا تأوه تضورت له قلوب الناس من حوله ، وعليل النفس إذا نطق بالآه ظنوا به الجنونا ، وأى ألم أشد فى النفس من ألم لا تراه إلا أنت ، من ألم إذا أردت أن تصرخ منه خرج الصوت يشق أحشائك شقا ، خرج أنينا أبكما ، لا يكاد يبين إذا سُأل : مالك ، إلا : مفيش ، اللهم إلا أن يسعفه الله بـ "شوية برد" فيخرج من حرج الهم الواضح فى ظاهرة بلا علة تُعايَن .

وإذا ما تكالبت الآلام ، هل يصبح السبب الرئيسى فى انتهاء رحلة الإنسان هى تكالب آلام روحه ، أم آلام جسده ، الضغط والسكر والقلب هل هى أزمات نفسية تترجمها الأجساد إلى لغة تفهمها العيون المادية ؟ ، الشىء الذى نعرفه جيدا أن السبب الرئيسى لموت الحيوان هو علل جسديه ، فهل كل من وصلت به آلامه النفسية إلى حد الموت دونها كان راقيا ، هل كان يفاخر جميل بن معمر وهو العربى فى زمن التفاخر عن\ما سأل عن قومه : من قوم إذا أحبوا ماتوا ، وهل مدحته الجارية وأعلت قدره عندما ردت : عذرى ورب الكعبة ، هل كان الفخر بالموت فى ميدان من ميادين الشعور يساوى عند العربى الفخر بالموت فى ميادين المعامع !

هل أقتل نفسى بإدمان عذاب نفسى كما يقتل المدمن جسده بمسكراته ، هل يحاسبنى الله على إزهاق نفسى ، وذهابها حسرات ، أم يثيبها على ما أوذيت به درجات ، أقوى النفس أنا بعذاباتها أم ضعيف بعجزى عن رد الآلام عنها ، أتزيد أسئلتى من الألم أم تسكنه ، أتزيد أسئلتى من آلام مثلى أم تسكنها ، آه من تلك السؤالات إنها بحد ذاتها لهى .. الألم .

23‏/9‏/2010

ألف ميم نون


مفاتيح سور القرآن ( ألم – ألر - .. ) لا يعلمها إلا الله ، أما هذا المفتاح ( أمن ) فهو أحد مفاتيح هذه الحياة الذى طالما حار الإنسان فى فهمه، مع أنه يمثل أحد ركائزه الأساسية، و بالرغم من أنه قد يكون أمرا معنويا للغاية، لكن الإنسان لا يستطيع العيش بدون نسب مُرضية له من هذا الأمن على اختلاف مصادره.

مشتقاتُ هذه الأحرفِ تمتد لتشمل قيما كثيرة فى الحياة ، فمن أول اسم الله "المؤمن"، إلى الصفة التى يعتقد بها الناس فى أديانهم "الإيمان" ، إلى الهدف الأسمى الذى خلق الله البشرية من أجله "حمل الأمانة" ، إلى الوصف الذى أثبته الله على النعيم الأخروى " ما جمع الله لعبد من أمنين ولا خوفين .. ".

إذن فالأمن هو شعور معنوى له عناصر داخلية أغلبها مستقاة من مصادر غيبية أو ميتافيزيقية من فكرة الإيمان بالقدر، والإيمان بأن هناك حياة أخرى ، والإيمان بأن أى أذى جزئى (بدنى أو معنوى) للذات البشرية سيُعوض عنه الإنسانُ بشكل ما فى حياة أخرى ( حتى الشوكة يشاكها) ، وأن أى أذى كلى (الموت) سينقلها مباشرة إلى عالم آخر يتم التمتع فيه بالأمن الكامل (أولائك لهم الأمن وهم مهتدون) لأن فكرة الخلود نفسها هى "أمن" ضد الموت، ولذا فإن مشكلة غير المؤمنين دائما هو انعدام الأمن الداخلى الذى قد يؤدى بهم إلى الإسراف فى أحد الجانبين ، الحرص التام على عدم تعريض الذات البشرية للخطر (التأمين على الحياة مثلا ) ، أو التفريط التام فى تعريض ذاتهم للخطر (الانتحار مثلا ).

أما عناصر الأمن الخارجية فهى تتمثل فى أشياء مادية ، إذا لم تتوفر يصاب الإنسان بنسب من الخوف حتى لو كان لديه رصيدٌ كاف من عناصر الأمن الداخلى ، وهو بلاء كأى بلاء مادى يصيب الإنسان ( الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ) ، بل وينال من أعلى البشر الذين يتمتعون بالأمن الداخلى (وإذ زاغت الأبصار وبغلت القلوب الحناجر) ، وسماه الله خوفا بالمعنى الصريح مرتين فى سورة الأحزاب ( جاء الخوف / ذهب الخوف).

والعلاقة بين الأمنين الداخلى والخارجى أراها فى الغالب عكسية فى الحياة فإذا قل الأمن الخارجى زاد الأمن الداخلى ، لأن الركون إلى أسباب الأمن الظاهرة أو الدنيوية إذا انقطعت يلجأ الإنسان إلى توثيق صلاته بأسباب الأمن الداخلى اليقينى والغيبى ، وإذا زادت أسباب الأمن الخارجى فإن الإنسان يركن إليها قليلا على حساب اللواذ بأسباب الأمن الداخلى، هذا على مستوى الفرد ، فما الحاصل على مستوى الجماعة.

على مستوى الجماعة دائما ما تنسج لحظات انعدام الأمن الخارجى خيوط الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أسوء أو أفضل حالا على حسب درجات الأمن الداخلى الذى تتمتع به هذه الجماعة ، فأوقات الحروب أو الفتوح أو الثورات الداخلية دائما ما تنعدم فيها أسباب الأمن الخارجية لدى الجماعة ، لكن فى الوقت نفسه يقاس مدى نجاح النتائج المرتقبة من هذه المرحلة بعمق الأمن الداخلى الجمعى وقوة توجيهه فى الهدف الذى من أجله تجتمع هذه الجماعة عليه.

أما فيما بعد مراحل الاستقرار فإن منحيات الصعود والإبداع دائما ما ترتهن بمستويات عالية من الأمن الخارجى والداخلى على السواء (على مستوى الجماعة كما ذكرت ) ، فإذا كانت يد البنا لا تحكم رص اللبنات وهى مرتعشة ، فمن باب أولى يد الرسام لا تستطيع المسك بالفرشاة من الأساس إذا كانت أيضا مرتعشة .

لكن الأفراد غير التقليديين من القادة والعلماء والمبدعين دائما ما يتعاملون مع مساحة من الخوف الخارجى لأنه فى الغالب ما يقومون بإنتاجه يثير ردود الأفعال التى تكون تارة فى صالح هذا الإنتاج وتارة ضده ، فلو كان شيئا عاديا لا يغير من واقع الناس لما لفت انتباه أحد من الأساس.

لذا فالقاعدة الأساسية فى حياة الفرد أو الجماعة الطامحة المؤثرة أن تكون مستهدفا لألوان من الخوف يعزز من استفزازية تحركهم نحو ما يصبون إليه ، وفرض رؤيتهم فى الواقع كى يأمَنُ إليها من يلونهم من البشر البسطاء العاديين المؤيدين أو حتى التابعين.

تاريخيا نجدُ أن الجماعة المؤمنة كانت فى محل خوف خارجى شبه دائم ، يلخص حالتها مثلا إبان فترة تأسيس الدولة الإسلامية ( من أول الهجرة إلى فتح مكة ) وصفُ أحدِ الصحابة حالـَهم فى المدينة " كنا نبيت فى السلاح ، ونصبح فى السلاح "، أى أن جهوزيتهم للدفاع عن القيمة التى يؤسسونها فى الأرض كانت عالية للغاية، وكل ما أنتجته هذه الفترة وكل ما عايشه ذلك المجتمع – والقائد الأعظم بين ظهرانيهم – كانت فى حراسة السلاح ، ولو بالمعنى المعنوى ، أى الشعور بأن كل لحظة فى حياتهم نذر ووقف لمشروعهم، والذى يجلى من اتضاحه أمامهم عدوُهم المتربص بهم والذى لا يترك لهم مجالا للأمن الخارجى.

على مستوى الأفراد المؤثرين فإننى لا أكاد أجد رجلا له ذكر بين الأمم إلا إذا كان فى المقام الأول مات فى سبيل ما يدعو إليه أو على الأقل فى المقام الثانى أوذى وعذب أو سجن فى سبيل ذلك ، حتى إن الذين لم يصبهم شيئا من هذا يشك دائما فى كيفية تعاطيهم مع مخالفيهم خاصة إذا كانوا من ذوى السلطة ، فدائما السائر على الخط المستقيم لا يعدم الوقوع فى بعض الحفر التى على الخط ، أما الغير ملتزم بذلك الخط فيستطيع بكل سهولة الالتفاف والتلوى مع كل عقبة تصادفه ، مما يبطىء من سرعة وصوله للهدف أو حتى يُضله الطريق تماما.

فعندما نجد أن ثلاثة خلفاء من أصل أربعة فى عداد الشهداء ، ولو عددناهم ستة خلفاء بدخول عمر بن عبد العزيز وعبد الله بن الزبير يصبحون خمسة خلفاء شهداء ، و عندما نجد أن أئمة الإسلام الأربعة لا يوجد فيهم من لم يسجن أو يمتحن نتأكد من ذلك، من أول أحمد ابن حنبل ومحنته الشهيرة، إلى الإمام أبى حنيفة الذى توفى فى سجنه من التعذيب الذى طاله وقد جاوز السبعين، إلى محنة الإمام مالك الذى ضرب نحو مئة صوت ظل أثرها على جسده حتى توفى رضى الله عنه ، إلى الإمام الشافعى الذى وضع القيد فى يده وكادت تضرب عنقه ، إلى العشرات من تلاميذهم ومن أهل العلم فى هذا الباب الواسع والكثير منهم أعجب عندما يذكر أنه مات فى محبسه ، ولا أعجب من أن نرى أعظم من أثروا فى الفكر الإسلامى القديم كابن تيمية أو الحديث كسيد قطب يتوفى الأول فى سجنه ويحكم على الأخير بالإعدام.

أما إذا خرجنا من باب العلماء والمفكرين فإن أبواب القادة والمجاهدين والدعاة والمصلحين مفتوحة على مصراعيها تسطر آلاف البشر من كل الأشكال والألوان لا فى حضارتنا فقط ، وإلى عصرنا الحالى لا يكاد الواحد منا يسمع عن رجل عظيم الشأن فيذهب لقراءة سيرته إلا ويجد له فى أيام عمره سجن أو محنة تصقل من معدنه، وتمِيزُهُ بين الرجال ، حتى أن الرجل الذى تفاخر به أقوامنا الآن على مستوى السياسة بين سجنه وتوليه رئاسة وزراء تركيا أقل من خمس سنوات.

ومع كل هذه السير وتلك المسيرات فإننى لا أدرى كيف وصلت ثقافة "الأمن" إلى وضعها الحالى فى مجتمعاتنا على مستوى الفرد المؤثر وعلى مستوى الجماعات الفاعلة ، هل بالفعل يشعر هؤلاء الأشخاص أن انعدام الأمن هو أمر غير مستغرب؟ ، أو بالأحرى لماذا يوجد حرص على وجود هذا الأمن والتضحية ببعض المكاسب الواجبة والمفروضة عليهم فى الطريق؟ ، وهل هناك درجة من انعدام هذا الأمن "التضحية" يجب أن نصل إليها أولا حتى نُعطى ما نطلبه ؟ ، لماذا لا يكون الاعتقال مثلا فى زمننا هذا هو أمر متوقع فى حياة كل فرد مؤثر؟ ، علامة مضيئة على الطريق ، وأن يكون العكس هو المستغرب، صحيح أننا لا يجب أن نتعامل معها على أنها من حق الظالم نفسه أن يعتقلنا كما يحلو له ، لكن فى الوقت نفسه ليس من حقنا أن ندفع هذا الخوف بالركون إلى خطوات من شأنها أن تبطىء عجلات الهدف الذى نصبوا لتحقيقه.

إن الطريقة الثورية فى الاحتدام بنقاط الجهل والتخلف والفساد والخواء لتُعرف من حجم الخوف الذى يلاقيه كل فرد وكل جماعة على خطوط هذه النيران ، وإن كل ابتعاد – فى وضع أمتنا الحالى – عن هذا الخط لا أخال إلا أنه يبطىء من النصر الوشيك.

دعونى أقول أن تلك الخواطر تجول فى جنانى منذ عام ، وها أنا – بهذه الليلة – أتمم عاما كاملا بعد تجربة اعتقال قصيرة ، قد أكون خسرت فى هذه نهاية هذا العام – بسبب الملف الأمنى – عملى كمراسل وكإمام وخطيب حر ، لكننى لا أستطيع أن أنكر أننى أفضل حالا بكثير، أن أجزاء كاملة من طرق التفكير ودروب العمل لدى قد تم دفعها بشكل صحيح ، والفضل أن "ألف ميم نون" أصبح لديها عندى معنى مختلف ومذاق خاص بعد تجربة مثل هذه .

حتى قد يكون الأمر أوسع من ذلك ، والنظرة أشمل من الأمن على النفس ، فحتى الأمن الاقتصادى وعدم المخاطرة برؤوس الأموال، أو الأمن على الأشخاص القريبين منى ودوام الاطمئنان المتبادل بينى وبينهم، أو الأمن العاطفى وعدم خوض تجارب ما كانت محظورة لدى سابقا، أو حتى تأخر السكن النفسى ذاته، كل هذا قد اتسق وتناسق وانتظم فى عقد جديد بعد أن كان متناثرا فى حياتى ليشكل منظومة لا تعرف الأمن ولا الأمان فى هذه الحياة ، وترتقبه فى حيوات أخرى .


20‏/6‏/2010

صدمة 23


خطوُه يأخذ فى التسارع كلما اقترب من ذلك المبنى ، تتلوى قدماه وهو يلتفت برهة للبوابة التى دخل لتوه منها ويتمتم حامدا أن لم يسأله أحد عن هويته الجامعية ، يبدو أن استنتاجه كان صحيحا ، يبدو أنه بالفعل لم ينقطع تردده على هذا المكان بعد ، وجهه هنا ما زال مألوفا ، وجوههم أيضا .. هؤلاء الذين يقفون فى بوابة المبنى لم يتغير إلا واحدا أو اثنين ، تلتهم أقدامه الدرج بقوة ، يصعد دورا واثنين وثلاثة بنفس القوة ، يلهث عند آخر درجة ، يمرر عيناه على أبواب تلك الردهة ، لا بد أنه قد التحق بهذا القسم ، ينظر فى ساعته المكسور زجاجها ، عشر دقائق تبقت على الموعد ، يلمح مقعدا فى طرف المكان ، يلقى بجسده المرهق عليه ، يلتقط أنفاسه ، تدور عيناه فى المكان دورة كاملة قبل أن يغلقها تماما ، يضغط بأجفانه أكثر ، يحاول أن يهدأ ليراجع الساعات الغريبة التى مرت به منذ الصباح ، يجفف بمنديله قطرات العرق الخفيفة التى انتثرت على جانبى جبهته من أثر العدو ، يرتبك عندما يرى أثر الدماء التى على المنديل ، فيخفيه فورا فى جيبه ، تلمس أنامله الورقة التى بسببها هو الآن فى هذا المكان ، يرفعها أمام عينيه ن يحاول استنطاقها ، يتذكر جيدا أنها مقطوعة من مفكرته الأثيرة ، ذلك التاريخ المطبوع عليها وهذا الكلام المكتوب فيها لا يتذكر متى كتبه .. 10/6/2008 ، هذا هو التاريخ المطبوع ، و 10/6/2010 هذا هو التاريخ المزيل فى الورقة والمكتوب بنفس خط هذه البنود الخمسة ، لقد تأكد بالفعل أن يومه هو التاريخ المكتوب ، لقد التقط ورقة حالته المعلقة على طرف سرير المشفى مأرخة بـ 10/6/2010 ، الكثير من الحروف الإنجليزية غير المنسقة كانت منتشرة تستفل وتستعلى أسطر ورقة المشفى ، لم يسعفه فى الفهم إلا الكلمات التى استلقتها أذنه فى حالة نصف وعى ، كان أحدهم يهمس للآخر ، لعل صوته كان عاليا ولكنه لم يسمع إلا همسا ، كان يتحدث عن حادث .. عن احتمال فقد للذاكرة .. كان الآخر يبدد شكوكه .. كان يحدثه أن الصدمة كانت خفيفة .. أن الجروح طفيفة .. أن الفقد لن يكون إلا جزئيا .. أنه سيعود سريعا .. بمجرد أن يفيق ويرى بعضا من حياته المفتقدة فى الذاكرة .. لعل هذا هو الذى جلعه يفر فى غفلة من الممرضة التى ثقلت رأسها على باب العنبر ، ماذا لو بقى ، من المأكد أن أحدهم قلق عليه الآن ، لكنه لم يستطع ، الأحداث التى فى تلك الورقة ، تلك الورقة الوحيدة التى عثر عليها فى جيبه ، لا يمكن أن يتحمل تفويتها ويستسلم هناك راقدا على فراش المشفى ، بالتأكيد سيخسر ، يحاول أن يتذكر أكثر ، صور كلها مشوشة ومهتزة ، تحلق نفرِ يلبسون لأبيض ويتكممون بالأخضر فوق رأسه .. حركة عجلات السرير المتسارعة المتذبذبة فى أروقة رخامية ، أبواق سيارة الإسعاف المتتابعة ، آخر امتحانات الكلية .. لا لا لا ، محال هذا ، من المؤكد هناك خطأ ، ما .. يستدير برأسه ويضربها برفق مصطنع فى الحائط الرخامى خلفه ، يفتح عيناه فجأة ، منذ متى دخل الرخام كليتنا ، تبا إنه لا يتذكر أى شىء ، أى شىء عن عامين مضيا .

لا يبقى كثيرا على حالة ارتباكه هذه يصوب نظره شطر ذلك الموظف الذى ما زال يرقبه شذرا ، يهم إليه ويبادر بالتحية ، يسأله إذا ما كان اسمه فى كشف هذه اللجنة ، يرد مستنكرا : سيادتك لا تعلم ما هو قسمك ، يتردد برهة ك بلى أعلم ، قسم التاريخ لكنى لا أتذكر الرقم ، بعد تنهيدة تستفتح عينا الموظف قائمة اللجنة ، يعثر على الاسم فى أول صفحة ، تختلج قلبه فرحة عندما وقعت عيناه على اسمه أيضا ، يمرر الموظف اصبعه إلى أن يصل إلى الخانة التى فى آخر السطر ، ينظر إليه وقد مط شفته السفلى ، حضرتك محروم بالطبع من الامتحان اليوم ، لم تحضر أصلا طوال العام ، يتمتم بصوت خفيض : لم أحضر كيف لم أحضر ، ما المانع من حضورى ، أى عمل أخرنى عن هذا ، لا بد أن هناك ما كان يشغلنى ، لا بد أن عملا أهم فى انتظارى اليوم عوضا عنه .. أخذ يحدث نفسه زاهلا عن الموظف تسوقه قدماه إلى الدرج ثانية .

جلس لحظات يستعيد هدوءه على مقعد مقابل للكلية ، يمسك بالورقة ويقرأ أول سطر فيها قراءة أخيرة - قبل أن يمحوه تماما - : الذهاب إلى امتحان التمهيدى الماجستير – قسم التاريخ الإسلامى .

ينتقل برفق إلى السطر الذى يليه ، يمشى بتؤده هذه المرة ، يتذكر أو مرة صعد فيها هذا المبنى المقابل لكليته ، وذلك الدور العلوى الذى كانت تعلو مكاتبه التراب ، كيف كان أول اجتماع به مع أول فريق عمل ، خمسة كانوا وهو سادسهم ، لم يمض إلا أشهر حتى جاوزوا المئة ، يالله ترى كم وصلنا الآن ، وترى أى الفروع فتحت ، وترى من الآن يخلفنى فى منصبى ، وترى أى مفاجئة تلك التى من المفترض أن أخبئها لهم اليوم ، شىء من السرور أخذ ينمو بنفسه كلما اقترب من باب مكتبه ، سرور يعرف مذاقه من كل عمل تطوعى يقوم به ، ويشعر أنه بالفعل رصيد مباشر يضاف لأمته ، أخيرا تضغط يده على مقبض الباب يفتح برفق ويدفع بلين ، لا يدور المقبض ولا يستجيب لسانه ، يبدو أنه مغلق ، يتوجه للمكتب الذى بجواره ، شخص لا يتذكره يجلس هنا ، يبادر : أجديد هنا ، ينظر الشاب إليه وقد عقد حاجبيه ، يعنى من سنة تقريبا ، مين حضرتك ، يدور السؤال فى ذهنه بسرعة البرق ، إنه لا يعرفنى ! ، هنا من سنة ! ، لم آتى لمكتبى هنا منذ عام ، يالله ترى .. يقاطعة الشاب بنبرة أعلى : مين حضرتك ، يتلعثم ، لا أنا فقط كنت أسال عن مجموعة شباب .. نعم شباب يقومون بنشاط ما هنا .. نشاط اسمه "أبجد" تعرفهم .. سمعت عنهم ، يأخذ الشاب فى القهقهة : لقد رحلوا منذ زمن طويل . رحلوا كيف ؟ لمذا ؟ ، يتابع الشاب فى تلقائية مستنتجا : آآآآه .. أنت إذن من الأعضاء الذين نسوا أشياء لهم هنا ، ويأتون كل يوم والآخر كى يسألوا عنها ، ويصدعونا نحن ، حسن يا سيدى تعال ورائى ، وبحركة ميكانيكية أخذ العامل يعبث بعدد من المفاتيح أخرجها من جيبه ويتوجه بتلقائية إلى باب فى آخر الردهة ، ويفتحه بشىء من الدفع والتدافع من عشرات الأوراق التى بدت متكدسة خلفه ونادى نحوى : تفضل خذ ما تريده وارحل .

لا يكاد يصدق ما رأى ، لا يكاد يصدق أن الرجل الذى افتتح نموذجه عندما كان رئيسا لمركز فى الكلية هو هو الذى أغلقه عندما أصبح عميدا لها ، لا يصدق ما قاله ذلك العامل ، لا يصدق أن ما أنفقه فى أكثر من عامين راح أدراج الرياح ، تكدس أكوام فوق أكوام كالأطلال فى حجرة ضيقة ، لا يصدق أنه سيخرج الورقة من جيبه ، وسيمحو السطر الثانى ، أن زيارة لمكتبه فى نموذج مجمع اللغة العربية ، وتقديم هدية لمن يكملون مسيرته باتت فى عداد الأمنيات المستحيلة ، أن عليه التوجه للسطر الثالث ، بكل أمل ، وكل خوف ، بألف رجاء يجر أقدامه اليائسة إلى الحديقة المسماه فى جدوله المزعوم اليوم ، ينتظر لقاءه القادم .

الطريق من الجامعة إلى حديقته تلك المطلة على النيل ليس طويلا ، والموعد الذى كتبه قبل عامين هنا فى الورقة ليس قريبا ، آثر أن يقطع المسافة ماشيا على نسمات نيلية تلفح ذاكرته فتعيد لها ما سلبه حادثه ذاك ،لكن النسمات بدلا من أن تسترد شيئا من عقله أخذت ترسل أشياء من مآقيه التى تترقرق فى عينه منذا الصباح ، رباه لو كان لى أن أنسى أننى تركت الماجستير ، وأن مشروعى قد توقف رغما عنى ، فلا يجب أن يسقط من ذاكرتى أبدا موعدى القادم .. تتسابق الدمعات عندما يخطر بباله أن ماذا لو لم يكن ساقطا ، ماذا لو لم يكن موجودا من الأساس ، تكاد أنفاسه تقف على حافة السؤال قدماه تغوص فى عرض الممشى أيمن كوبرى الجامعة ، فى حركة جنونية اندفع بجسده كله كالرصاصة يطوى ما تبقى من الطريق عله يستبق قدرا ليس يسبقه .

دارت عيناه فى المكان حتى وقعت على طاولة غير مشغولة ، قصدها مضطرب الخطو ، جلس ضاما رجليه ويداه مقبوضتان عند ركبتيه وعيناه صوب المشهد النيلى الذى راح التماع ماءه - تحت وهج الشمس - ينعكس ويتلألأ فى عينيه فيزيد من ترقرق مائهما .

"ترى من تكون التى أنتظرها" ، حدق فى وجه النادل الذى أتى ليسأله عن طلبه وكاد ينطق ، لكنه ابتلع ريقه ، نظر على الطاولة ، أمسك بالقائمة ، ترى أى المشروبات تفضلها ، هل تحب الجوافة مثلى ، أم ترانا لا نطلب سوى الليمون ونوفر أى مليم لعصائر البيت الطازجة ، "أنتظر أحدهم ، سأطلب عندما يأتى" ، تململ النادل منه وأشاح عنه بوجه عابس .

أخذ يقلب ذاكرته فى صفحات وجوه فتيات من رأى ، من أحب ومن عرف ، من جاورها ، ومن زاملته ، من تأستذ عليها ، ومن تتلمذ لها ، من رنا إليها ، ومن إليه تزلفت ، أخذ يحاول تجميع صورة واحدة ، لا يريد سوى واحدة ، ترى أعيناها كما كان يحلو أن يلونها بخضرة الحقول وزرقة السماء والبحر ، أم بدكنة الغسق وحمرة الغروب ، أم بسواد الليل وغمقة العنبر ، تراها خمرية كمعتوق النبيذ أم شقراء كضى القمر ، تراها تقارعه بقلمها ، أم تباريه بصوتها ، تشعر به الآن ، تعرف ما حدث له فى الصباح ، ترى يعرفها لو أتت .. ضاق ذرعا بخيالاته ، وضاق بمقعده ، انتصب عوده النحيف وراح يضرب الأرض بخطوات غادية وراءحة ، يحدق فى وجوه الخلق ، يخيل إليه كل غادية أنها مقبلة عليه ، ترى هل تكون تلك .

أخذ اليأس يتملكه ، ينظر إلى ساعته المكسور زجاجها ، مرت ساعة ، ياه كيف نسى ذلك ، يكاد أذان العصر يُرفع ، لم يصل الظهر بعد ، انطلق إلى الزاوية التى يعرفها جيدا فى ركن من الحديقة ، لا يذكر أنه كان متوضأ ، أخذ يفضى من الماء على أطرافه فيكتشف بعض الجروح والكدمات التى أخذت تشى أن الحادث كان أشبه بالسقوط منه بالاصطدام ، ترك التفسيرات بعيدا ، ترك الماء أيضا على أطرافة يقطر ، وهم بالصلاة .

قرفص بعد الصلاة ووضع رأسه على تشبيكة أصابعه يحدق فى لا شىء ، لا يتذكر أنه أحس بلذه كهذه من قبل ، تملكه العجب ، إن خالق الحب لا يكلفك إلا أن تذكره فى نفسك حبيبا حتى يذكرك فى نفسه ، بمجرد أن يخطر على بالك .. نعم بمجرد أن يخطر على بالك ، تعلم أنه يذكرك ، يذكرنى ! ، وأى سعادة ينالها محبوب عندما يعلم أنه حبيبه الآن يفكر فيه ، فما بالك لو كان مخلوقا وهو خالق ، لكن لم تتفتق له هذه المعان التى لم يطالولها يوما ، تلك التى كان يفكر بها طوال تلك الساعات ولا يعلم أصلا أهى كائنة أم لم تكن بعد ، أيتوافق تخاطرهما ، أم يتنافر ، وما الذى عليه فعله كى ينهل بوصلها ، أن يبتغى سلما فى السماء أو نفقا فى الأرض ، لكن ما الذى عليه فعله كى ينهل بوصل الحبيب الأعظم ، أن يرفع يده ويهبط بها على صدره ، أن يصدح الله أكبر الله .. سمعها ترن فى الأفق تعلن صلاة العصر ، اندفع بجبهته تقبل الأرض وبروحه تحلق فى السماء ، وبلسانه يدعو الحبيب أن يهديه حبيبه فيه .

تسليمة عن اليمن وأخرى عن اليسار ، يرفع بعدها يده إلى جيب قميصه ، يخرج الورقة ، ويخط على السطر الثالث ، لم تأت له زوجة فى الموعد المحدد ، ضاق ذرعا بتلك اللعبة السمجة ، أخذ يمرر عينه فى بقية الجدول ، يذهب لشركته ويعقد اجتماعا تقييميا ، يصلى مع صديقه المغرب ، يذهب لبيته قبل العشاء ، لا يعرف من ذلك كله إلا صديقه الذى لا يخال أنه قد تغير ، ترى أين شركته تلك ، وهل هى موجودة أم ككل الأخريات كانت مجرد أمنية لم تر ضوء النهار بعد ، وترى بيته ذاك هو بيته فعلا ، أم بيت أسرته ، هل يجلس إلى الآن فى بيت والده ، لا يعقل هذا ، من يدلنى إذن من ؟ ، جمع أمره وانطلق من فوره إلى صديقه ، ما زالت معالم بيته الذى يتردد عليه لا يُخطؤها .

بيت صديقه لا يفصله عن بيت أهله سوى عدة شوارع ، ورغم ذلك أحب أن يذهب إليه أولا ، مؤكدٌ أن لديه تفسير أوضح لكل هذا . عند مدخل شارعهم رأى أخاه من بعيد ، استبشر وتوجه نحوه :

- كيف حالك حسان ، وكيف أخوك .
- بخير والحمد لله ، لكن يبدو أنه لن ينزل فى أجازة هذا الصيف .
امتقع وجهه وزاغت عيناه ، تابع بصوت تحشرج فى حلقه : ولم ذاك ؟
- يبدو أن المقام قد طاب له فى السعودية ، ضحك الفتى ثم ودعه ومضى بعيدا .

تسمر فى مكانه ، لكن دهشته لم تلبث طويلا ، مم يدهش ، ولم يدهش ، من أول يوم عرف فيه حاتم وهو لا يكف عن حديث السفر ، ودروب الهجرة ، من أول يوم عرفه فيه وهو يأتى كل يوم له ببلاد جديدة يقلب رأسها على عقبها ، يتعلم كل شىء عنها ، ثم يكتشف أخرى أكثر ميزة أو ميزتين فيتحول إليها ، يذكر أنه كان أكثر تعلقا بكندا ، نعم كانت حلمه الكبير ، لا يذكر أبدا أنه فكر بالسعودية من قبل ، ترى ما الذى جعله يحط رحاله هناك ، نعم كنت أعرف كل ذلك ، لكن من كنت أفكر فيه صديقا ساعتها عندما يسافر حاتم ، هل كنت أنوى البقاء بلا صديق ، ترى من اتخذت من بعده صديقا ، ترى ما سمته ، ترى ما خلاله .. وأخذ يعيد هزيانه فى أصبوحته النيلية بلا وعى .

عندما بلغ ناصية الشارع استقبلته الشمس بأشعتها القرمزية ، فبثت فى الأفق مشهدا جنائزيا مهيبا ، خطف قلبه عندما رنت عيناه إلى شرفة فى الشارع الذى يقابل بيته مباشرة ، بدت وكأنها تحمل له ذكرى أليمة لم يجف جرحها بعد ، كيف وهى شرفة تلك الفتاة التى هى الآن قد شب طوقها وما زالت أحلامى تراودنى أن أنتظرها عدد سنين فأظفر بها ، أخذ يرد ذلك الخاطر وهو يتمتم : أمسينا وأمسى الملك لله ها هو يدخل شارعه ، ويتمتم : اللهم بك أمسينا ، يرمق مسجد "فاطمة الزهراء" قد سمى باسمها ، ينقبض أيضا عندما ترتقى عينه إلى لوحته المنحوتة بخط الثلث المحبب له ، يمضى فى طريقه بلهفة يتسارع خطوة كمن يلاحقه عدو مباغت خلف أشجار غابة معتمة ، ويتمتم : أمسينا على فطرة الإسلام ، يسرع أكثر كلما اتقرب من البيت لم يتبق سوى بنايتين يسلم ساقه للرياح يتجاوزهما فى سرعة البرق ، تتسمر عند الدرج الذى همت بالتهامة .

- حمد لله على السلامة يا أحمد ، قالها وأخذه بين ذراعيه يحتضنه بقوة ، بل يعتصره فى عنف .
- الشيخ أنس !
- لا ، كان هذا منذ زمن ، أنا الآن ، أنس صديقك
- صديقى .
- اجلس ، وقل لى كيف سار يومك .

لم يحك شيئا ، حكى له أنس عن كل شىء ، حكى له عن اتصاله به ليلة أمس ، كان صوته عاليا ومضطربا كالممسوس يصرخ ويطلب منه أن يرافقه غدا فى ركوب الخيل " خشيت عليك بشدة ونصحتك ألا تذهب ، فى الفجر هاتفتك رد على أخوك وقال إنك تركت هاتفك ، وتركت المنزل فجأة ولم تعد من بعد الصلاة ، أدركت أنك بهذه الحالة مصاب لا محالة ، نزلت من فورى ولحقت بك عند المكان الذى نركب فيه الخيل دائما ، وجدتك محمولا على يدى أحدهم بعدما كبا بك الجواد من فرط اندفاعك به ، ذهبت معك للمشفى ولما قصصت للطبيب ما حدث ، أبلغنى هو الآخر بحالتك ، قدم إلى الورقة التى فى جيبك وقال أرجح أن فقد الذاكرة المحتمل ذلك سيبدأ من هذا التاريخ قبل سنتين من الآن ، ذكرت له أن الصدمة ستكون كبيرة عليك ، اقترحَ أن نتكرك تواجه ورقتك بندا بندا ، حتى لا تصعك الحقيقة كاملة ، اتصلتُ بأهلك لأطمأنهم ، وتغافل العاملون بالمشفى عنك ، حتى حدث ما كنا نتوقه ، وخرجت لتستقبل أحلامك وتراها بعينك ، لكن صدقنى أحلامك هذه رغم ذلك قد تحقق منها ..

لم يدعه يكمل أكثر من هذا ، أخرج ورقته وطلب منه أن يدله على المفكرة المنتزعة منها ، ناوله إياها ، قبض عليها بيديه المرتعشتين وخطا بقدميه الثقيلتين درج المنزل مودعا إياه : شكرا صديقى ، دخل البيت ، استقبلته الأحضان الحارة ، والأعين الدامعة ، أنسل من وسطهم ، أغلق باب حجرته خلفة ، تكوم جسده خلف الباب ومفكرته مضمومة إلى صدره ، فتحها برفق وأخذ يقلبها صفحة صفحة ، ويتذكر أيامه الضائعة يوما يوما ، يأسف لسفر صديقة ، يبرق لاجتماع قلبين يحبهما فى الله ، يرعد لفترة اعتقال مرت به ، يشهق لرحلة قصيرة إلى غزة ، يجزع لموت فاطمة ، يصل إلى صفحة الأمس ، يلتئم الماضى بالحاضر ، آخر مشهد مفقود ها هو يلتقطه ، ها هو يرى نفسه على ذلك الجواد الأبيض فى الصباح يعلو به ويهبط ، ينطلق به كالريح المرسلة ، ها هو يتذكر خلجات نفسه ويكاد يلمس وجهه المزعور رغم كل شىء ، كأنه كان يستعد للكبوة ، ها هو يشعر برأسه ترتطم بالأرض ، وتظلم الدنيا ..



يهب واقفا ، يستوى بجسده على المكتب يمسك بصفحة اليوم ، يمتشق القلم ويسطر ، ينتهى سريعا ، ويعلقها على الحائط ، يعاود القراءة بصوت هامس خفيض .

الأحد 10/6/2012

- أذهب لامتحان الماجستير .
- أتابع عمل "أبجد" .
- أقابل زوجتى فى الحديقة النيلية .
- أتوجه لمكتبى فى مؤسسة "الفراقد" للإنتاج الإعلامى .
- أحجز تذكرتين لقضاء عطلة الصيف مع حاتم فى كندا .