نقد سينمائي

عندما يتعطل المخ

أمير العمري

هناك شيء ما في الفيلم التسجيلي الطويل "مخي الجميل المشروخ" My Beautiful Broken Brain يجعله يرتفع فوق مستوى عمل يتناول مشكلة طبية جسمانية مباشرة، ليصبح عملا يمتلئ بالتأملات الفكرية والفلسفية، طارحا تساؤلات لا يواجهها الإنسان عادة مع نفسه، مثل من نحن، وكيف نفكر وكيف نرى الأشياء، وما علاقتنا بالذاكرة، بالماضي، وعلاقة الحاضر بما سبق أن خبرناه وعشناه، وكيف يمكن أن يصبح الماضي فجأة، وفي غمضة عين، أثرا من بعد عين، لا يمكننا استرجاعه، وتصبح قدرتنا على التخاطب مع الآخر، معضلة حقيقية. وما موقع المخ من أجسامنا، وهل يتحكم في كل هذه الوظائف؟

بين المادي الفيزيائي والنفسي المعنوي، يدور هذا الفيلم الممتع الذي يتابع الحالة الصحية لبطلته "لوتجا سودرلاند" التي أخرجت هذا الفيلم بالاشتراك مع المخرجة صوفي روبنسون، فلم يكن من الممكن أن تمتلك بمفردها القدرة على صنع فيلم من الألف إلى الياء رغم أن كثيرا مما يتضمنه الفيلم من صور ولقطات، قامت بتصويرها لوتجا نفسها، ورغم أن الفيلم عنها وعن ما وقع لها. ولكن ما هي الحكاية؟

تجربة فريدة عاشتها لوتجا سودرلاند ونقلتها في الفيلم للمشاهدين

"لوتجا"، الفتاة الإنجليزية (ذات الاسم الألماني)، كانت في عام 2011 في الرابعة والثلاثين من عمرها وإن كانت تبدو حتى الآن طفلة، يشع وجهها بالبراءة والدهشة كما لو كانت قد اكتشفت العالم لتوها، وقد شعرت ذات ليلة أثناء نومها- بألم شديد في رأسها أيقظها مفزوعة لتهرع خارج مسكنها في شمال شرقي لندن، طلبا للنجدة، ثم تنهار على عتبة فندق مجاور، لتستيقظ بعد يومين أو ثلاثة أيام في المستشفى، فقد أصيبت بنزيف مفاجئ من أحد شرايين المخ نتيجة ضعف خلقي، ما تسبب في جلطة، أفقدتها القدرة على التركيز، على التخاطب مع الآخرين، على الكتابة والقراءة، بل وفقدان الكثير مما يربطها مع الماضي، مع الذاكرة. 

عندما أدركت لوتجا ما وقع لها، وكانت تعمل أصلا منتجة للأفلام التسجيلية، أخذت تحاول استدعاء علاقتها بمخرجة كانت قد عملت معها وأرادت أن تستعين بها لتسجيل تجربتها في استعادة وعيها وقدرتها على التكيف مع الحياة مجددا.. لكنها عجزت عن تذكر اسم المخرجة، فلجأت إلى شقيقها الذي أخذ يعتصر ذهنه ويبحث على شبكة الإنترنت انطلاقا من صورة ضبابية وصفتها له شقيقته، إلى أن عثر على المخرجة صوفي روبنسون التي لعبت دورا رئيسيا في صنع الفيلم، وأصبحت تجربة تصوير الفيلم نفسه (تم تصوير 150 ساعة من المواد قبل المونتاج) نوعا من العلاج والتأهيل النفسي التدريجي، الذي ساعد لوتجا في تحقيق ما حققته من تقدم ومقاومة للإصابة اللعينة، وإن لم تشف تماما حتى الآن مما وقع لها، فالأطباء الذين يظهرون في الفيلم، يقولون إن هناك أضرارا أصيب بها مخ لوتجا (الجميل) لم يعد من الممكن أن تتعافى منها.

لوتجا مع المخرجة صوفي روبنسون

الفيلم يتابع عبر مرحل زمنية مختلفة، كيف تكافح لوتجا لاستعادة نفسها، للعودة إلى السيطرة على ذاكرتها، والقدرة على التخاطب مع الآخرين. ومن خلال تواريخ وكلمات تظهر مكتوبة على الشاشة تشير إلى تعاقب الأيام والأسابيع منذ إصابة لوتجا بالجلطة، نتابع شريطا سينمائية مثيرا مصورا كما لو كان نوعا من اليوميات والمذكرات المصورة. الفتاة تقف أمام الكاميرا وتستخدم كاميرا هاتفها المحمول في تصوير نفسها وتصوير كل ما تمر به من مراحل العلاج، لكي تتذكر ما تمر به ويصعب أن تتذكره فيما بعد، وذلك على نحو يذكرنا ببطل الفيلم الروائي المثير "تذكار" (ميمنتو)- 2000 الذي كان ينقش على جسده الكثير من الأرقام والمعلومات والأسماء، كما يدون غيرها في بطاقات يحتفظ بها، ويلتقط صورا لكل من يقابلهم حتى يمكنه أن يتذكرهم. لكن لوتجا أصبحت بمفردها الآن، وهي تصف شعورها بعد أن عادت إلى وعيها عقب إجراء العملية الجراحية لإزالة الجلطة من مخها، وما تركته العملية من آثار ستظل باقية بشكل أو آخر، وتقول إنها كانت تتطلع إلى الدنيا في دهشة شديدة، وتشعر أن مخها قد أصبح خاليا تماما، أي جديدا، كمخ طفل ولد لتوه.

تلجأ لوتجا للعيش مع أمها التي تقول إنها استقلت عنها منذ أن كانت في الثامنة عشرة. وتظهر الأم في الفيلم، تصف شعورها بعد أن عادت إليها ابنتها، كما يظهر شقيق لوتجا وعدد من أصدقائها، يتحدثون عن استقبالهم لحالتها، وكيف كانت تبدو وهي مازالت راقدة على الفراش في المستشفى بعد العملية، إنسانة أخرى تماما. ولحسن الحظ أن لوتجا تتمتع بصحبة جيدة من الأصدقاء والأهل كانوا خير عون لها في محنتها.

كانت هناك علاقة ما- فكرية ووجدانية- تربط بين لوتجا والمخرج الأمريكي الشهير ديفيد لينش، الذي عرف بأفلامه التي تسعى لسبر أغوار النفس البشرية، وتطرح الكثير من التساؤلات عن العلاقة بين عالم الواقع وعالم الأحلام والكوابيس والخيالات، وما إذا كان العقل الباطن يختزن كل هذه الهواجس ويعكسها من خلال تصرفات مباشرة في الحياة الحقيقية، أو أن هناك تداخلا ما داخل العقل البشري بين الواقع والخيال وليس من الممكن الفصل بينهما.

ثمة شعور غريب بالحياة بين الحلم والواقع

كانت لوتجا معجبة بوجه خاص بفيلم "توين بيكس" (الذي كان في الأصل مسلسلا تليفزيونيا من اخراج لينش) وكان يدور في منطقة واقعة بين الخيال والواقع، وتصف هي كيف أرسلت إلى ديفيد لينش مجموعة من الفيديوهات عبر الإنترنت، كانت تسجل عليها ما تشعر به يوما بعد يوم، ولم تكن تعتقد أنه سيطلع عليها لكنها فوجئت به يستجيب لمراسلاتها بل ويدعوها أيضا للانضمام إليه عبر مؤتمر من خلال دائرة فيديو ويجري بثه على شبكة الإنترنت، وفي فيلمنا هذا جانب من الحوار المباشر بين لينش ولوتجا، ثم نعرف أيضا أن ديفيد لينش وافق على أن يصبح المنتج المنفذ لهذا الفيلم الذي صورته سودرلاند وروبنسون.  

يميل الفيلم من ناحية الصورة إلى التجريب والاستخدام المكثف لكثير من اللقطات التي تبدو سريالية، بواسطة كاميرا صغيرة مهتزة، تركز حينا على زاوية الرؤية من عيني لوتجا، وتحصرها معظم الوقت في لقطات قريبة (كلوز أب) وسنعرف السبب عندما نشاهد الاختبارات التي تجريها طبيبة عيون للفتاة، حينما تكتشف أنها تشاهد أشياء متحركة غريبة بعينها اليمنى، وبالتالي تمزج صوفي روبنسون بين لقطات الواقع المباشر من جهة، ولقطات أخرى غامضة متخيلة من زوايا غريبة (باستخدام المؤثرات الخاصة) لكي تمنح المتفرج الانطباع بأن ما نشاهده هو من وجهة نظر لوتجا نفسها، خاصة أنها تظهر في مشاهد كثيرة تقوم بتصوير نفسها، وتدور بالكاميرا أحيانا لتصور ما تراه، متذبذبا مضطربا.

هل ما أراه واقع حقا أم محض خيال؟

يصور الفيلم كيف تبذل لوتجا جهدا كبيرا في تعلم القراءة والكتابة، ثم كيف تنضم إلى تجارب خاصة جديدة تجري في أحد مستشفيات لندن لتدريب المخ البشري على استعادة الذاكرة المرئية للكلمات واستعادة فهم معناها عن طريق ترديدها شفاهية مع ظهورها بالتتابع على شاشة الكومبيوتر، ثم الانتقال من كلمة إلى أخرى، كما نرى كيف تواصل التدرب عليها في منزلها، ثم تبدأ في محاولة الكتابة لتستعيد قدرتها السابقة بصعوبة. ورغم ما تتمتع به من روح المرح، وابتسامتها المشرقة على وجهها معظم الوقت، ووعيها بوجودها أمام الكاميرا من البداية، إلا أنها لا تستطيع رغم ذلك، تفادي السقوط في شعور حاد بالإحباط واليأس أحيانا، وهي تجد نفسها عاجزة عن تذكر الكلمات ومعانيها. لكن إرادتها لا تلين، بل وتتمكن من إنجاز الكثير عبر سنة كاملة.

عقلي الجميل المشروخ

هذا فيلم يجمع بين الشخصي والعام، وبين النفسي والاجتماعي والجمالي، بين فيلم الحالة المرضية التي تضرب للآخرين مثالا على الإصرار وقوة الإرادة والرغبة في تجاوز الأزمة الصحية لكي يتعلم منها أصحاب الحالات المشابهة أو أولئك الذين يمكن أن يتعرضوا لما تعرضت له لوتجا، وبين فيلم يصلح مثالا في حد ذاته، لتعلم كيفية تجاوز المرض بالسينما، بالتعبير أمام الكاميرا، بالتشبث بالصورة، وبالإصرار على استعادة الماضي من خلال الصور. وفي الفيلم الكثير من أفلام الفيديو المنزلية القديمة التي تظهر فيها لوتجا وهي مازالت بعد طفلة صغيرة، مع شقيقها، ولاشك أن هذه الصور ساعدت في استعادة جزء من ذاكرة الماضي التي ساهمت بدورها في تنشيط المخ الذي يعاني من ذلك الشرخ المفاجئ.

التجربة – سينمائيا- ربما لا تكون مسبوقة على هذا المستوى، وربما لا تكون أيضا، مكتملة تماما، فهناك كثير من الغموض فيما يتعلق بمصير الفتاة، وبعض الاختصار والقفز الذي يخلّ قليلا بتدفق السرد قرب النهاية عندما نستقبل بعض المعلومات السريعة المقتضبة عن عودة لوتجا إلى عملها كمخرجة ومنتجة للأفلام التسجيلية، ثم زواجها، وكلها تفاصيل مفاجئة لا يمنحها الفيلم ما كانت تستحقه من اهتمام. رغم ذلك يظل الفيلم عملا شديد التأثير والصدق.

 

 

 

قد ينال إعجابكم