الذكورية ثيمة للتمرد في السينما العالمية!
أسماء الغول
بالتأكيد لن يحظى الفيلم الفرنسي "فيكتوريا" 2016، بالاحتفاء ذاته الذي حظي به فيلم "هي" 2016 ذو الإنتاج الفرنسي، والذي أخرجه الهولندي بول فيرهوفمن، صاحب الفيلم الشهير "غريزة أساسية" 1992، فالفيلم الأول الذي أخرجته الفرنسية الشابة جوستين ترييه، يتحدث بقالب من الكوميديا الخفيفة والدراما العميقة عن المشاكل الحقيقية في حياة المرأة المعاصرة التي تمزقها مسؤوليات رعاية أبنائها، وإنجاز عملها، والنجاح في الحب، والأهم الاحتفاظ بأسرارها في مجتمع ينتظر منها الفشل.
أما الفيلم الثاني فهو جذاب، وخاطف للأنفاس بلغته السينمائية، إلا أن الذكورية فيه لا تحملها الحبكة فقط، بل تتشبع بها رؤية المخرج لمجريات الأحداث ومصير الشخصيات وأدق التفاصيل، كأنه ينتقم من المجتمع المخملي الأوروبي ونسائه!.
"فيكتوريا"
في فيلم "فيكتوريا" الذي تؤدي فيه البطولة الممثلة البلجيكية "فيرجينيا ايفرا"، لن تنجح هذه المحامية الجميلة في الحفاظ على أي شيء مستقر بحياتها؛ فقد فشلت في العلاقات العاطفية التي سعت إلى ترتيبها، كما أنها نادراً ما تلاحظ ابنتيّها، ثم سرعان ما يتم إيقافها عن العمل لمدة ستة شهور بسبب خطأ مهني، إضافة إلى أن زوجها السابق يفضح أسرارها، بحثاً عن شهرة مدونته.
لم يقدم الفيلم امرأة مثالية بل محطمة، وهو حال كثير من النساء المعاصرات اللواتي يرزحن تحت ضغوط الحياة.
ومنذ المشهد الأول في الفيلم مع مربي ابنتيّها ـ إذ تسخر من رغبته بترك العمل لديها، وشكها بأن يحقق نجاحاً إذا ما أراد البحث عن تحقيق ذاته في مكان آخرـ يبدأ تأثير فيكتوريا المهمين يتضح على من حولها.
بيد أن الفيلم في الوقت ذاته يقدم فيكتوريا كامرأة "جدعة"، تهب لمساعدة صديقها بالترافع عنه بعد أن تدّعي حبيبته أنه اغتصبها، وقرارها بالترافع يأتي بعد تردد كبير، لأنها لا تريد الدفاع عن مقربين منها، لكنها تجد أن هذا بحد ذاته تحد كي تثبت براءته بالأدلة دون تأثير العاطفة.
الفيلم يعالج مشاكل الطبقة المتوسطة في فرنسا؛ غياب الحب، غَلبة العلاقات المادية، انعدام الثقة، وذلك عبر التركيز على "فيكتوريا" ونرجسيتها التي تطرد المحيطين بها، ما يجعلها تلجأ إلى الطب النفسي والعرافة، والعلاج بالإبر، لكن لا شيء يخلصها من أزماتها المتراكمة سوى جلوسها إلى نفسها بعد أن تم إيقافها عن العمل.
الستة شهور التي تقضيها في المنزل مُجبرة، تجد الحب الذي كان حولها دائما لكنها تجاهلته في خضم تركيزها على اتباع "السيستم" ألا وهو نظام الحياة المادي والسريع الذي يأخذها من كل شيء.
ويكون هذا الحب مع المتدرب الشاب، الذي تعرفت إليه حديثاً، وعرض مساعدته في إنجاز قضية الاغتصاب، وتربية ابنتيّها، مقابل الحصول على المال ومكان يأويه، ويؤدي دوره الممثل الشاب "فينيست لاكوست"، والذي كان أداؤه انعزالياً إلى حد ما، كأنه يمثل وحيداً.
كما أن هذه الإجازة الاضطرارية تجعلها تقضي وقتا حقيقيا مع ابنتيّها، ليقمن ثلاثتهن باللعب والأكل والاكتشاف، وهنا تستعيد قلبها وعائلتها، كما تواجه خوفها من الفضيحة وتقاضي طليقها الذي استخدم حجة الخيال وحرية التعبير، ليتهرب من اتهامه بالتشهير بسيرة زوجته السابقة.
بالتأكيد فيكتوريا ليست مثالية، إلا أنها مثالية بطريقتها، وضمن شروط العصر بأن تبقى على قيد النجاح والحب والأمومة، وتواجه قسوة مجتمع مادي لا يعطيها أي ميزة مجانية.
"هي"
ولنعرج قليلاً إلى فيلم "هي" الذي يقدم هو الآخر امرأة مسيطرة ومتسلطة، لكن هذه السيطرة ليست بالكلام، وقدراتها الدفاعية، بل بقوتها الجنسية.
وثيمة الجنس اعتاد المخرج فيرهوفمن اللعب عليها بجرأة وتحد، وربطها بالعامل النفسي لتاريخ البطل أو البطلة، وتذييلها بالجريمة، كما يحب أن يفعل المخرج وودي آلن، لكن الأخير يركز على ربط الحب بالجريمة، في حين أن فيرهوفمن أكثر بدائية ويطرح الجنس منذ أول لحظة كعقدة أساسية.
ويتحدث فيلم "هي" عن امرأة متعددة العلاقات، تتلذذ بالاغتصاب. تؤدي دورها الممثلة الفرنسية إيزابيل أوبير بعد رفض الدور من قبل مجموعة من الممثلات الأمريكيات، إذ كان ينوي المخرج تصويره بأمريكا، ولكن تم رفضه أيضاً من قبل العديد من شركات الإنتاج، كما صرح فيرهوفمن للإعلام العالمي في وقت سابق.
فيلم "هي" الذي يقدم إمرأة مازوشية تستمتع بكونها ضحية للعنف من قبل رجل مقنع سادي، يحمل سخرية متضمنة من كون الاغتصاب جريمة والمرأة ضحية له. وهذا تكهن ليس متجاوزاً للفيلم على الإطلاق ـ فالفيلم قدمه المخرج الهولندي الأمريكي بتقنيات سينمائية أمريكية، لكن فلسفته كانت أوروبية، أي أنه كان الابن الشرعي المتكامل للمخرج ولم يكن ابناً مشتركاً للجميع من الممثلين والمؤلف والشركة المنتجة، كما تحكم الطريقة الأمريكيةـ والمقصود أن هذا التكهن ليس مبالغاً فيه إذا عرفنا أن المخرج متهم على الدوام بكراهية النساء.
ويقول المخرج عن فيلمه في تصريحات منشورة "إنها ليست كوميديا، أنت لا تضحك على الإطلاق عندما تتعرض للاغتصاب"، إلا أن أحدا لم يحول الاغتصاب لكوميديا سوى المخرج ذاته، حين كانت تنهض البطلة بعد كل مرة يتم فيها اغتصابها، فترتب منزلها، وتتناول الطعام، وتسكت عن حقها بالشكوى، وكانت حجتها؛ أنها لا تريد جذب الشرطة والإعلام إليها، خاصة أنها عانت طويلاً من اتهامات لها ولوالدتها بالمشاركة والصمت على جرائم قتل ارتكبها والدها بشكل متسلسل.
ربما أراد المخرج حقاً انتقاد الطبقة الغنية، وفضح علتها الدائمة المتمثلة بعدم رضاها عن إشباع حاجاتها، ولكنه أيضا لا يقدم هذا سببا لقيام هذه المرأة الفتية الكهلة، بالاستمتاع مع المغتصب والتواطؤ على نفسها، كذلك إقامة علاقة مع زوج صديقتها، والمحاولة مع صديقتها ذاتها، بل السبب الذي قدمه فرويدي يتعلق بالتاريخ العائلي المضطرب لـ"هي".
إن البطلة المغتصبة والمتلذذة بذلك، تعاني من أنانية طبقتها الاجتماعية، فهي عاشت بكنف مجرم، وبمجرد أن تم سجنه بقيت إلى جانب والدتها التي أدمنت على الزواج بمن يصغرها، وفوق كل هذا، هناك ابنها الذي تزوج امرأة أنانية ومسيطرة، لكن هؤلاء النسوة اللواتي يشبهنها لسنَ السبب لما تفعله، بل هو الاضطراب النفسي الذي تسبب به والدها كرجل، فقد جعل هذه المرأة تحب مُعنفها.
لقد احتفى الجميع بأداء البطلة، واعتبروه مبهراً، وكل الأمر أن الممثلة استطاعت اقتناص فرصة مختلفة ترشحها لجوائز عالمية، فلعبت دور امرأة ضد نفسها، وضد حقوق النساء التي يبدو أنها أصبحت روتينا في هوليود حان وقت الثورة عليه.
أفلام مثل؛ "هي" والفيلم الأمريكي Fifty Shades Darker بالجزء الأول والثاني، تستعرض استعباد النساء جنسياً، بشكل جذاب، وبموافقة نسوية، وبصورة سينمائية مبهرة، ناهيك عن نيل هذه الأفلام لجماهيرية عريضة، كأنها تخاطب الإنسان القديم فينا، وكأننا أصبحنا في حنين إليه!.
ما يجعل فيلم "هي" مختلفاً عن أي فيلم "أكشن" أمريكي، كونه فرنسياً، والمقصود أنه لو كان أمريكيا لما انتبه إليه أحد، بالضبط كما كان فيلم الأمريكي "الفتاة ذات وشم التنين"، فالنسخة السويدية أكثر إبداعا بجميع المقاييس.
"هي" و"فيكتوريا"
بعد كل هذا حين تشاهد فيلماً كـ فيلم "فيكتوريا" تجده حقيقياً وبسيطاً، غير متفذلك، يدافع عن النساء دون أن يعطينا محاضرات، بل من خلال دراما فيها كوميديا ممتعة كأن يأتي الكلب شاهداً في قاعة المحكمة، وربما كانت هذه الدراما أحيانا مكررة وشديدة الخفة، إلا أنها بالتأكيد لا تترك داخلك إحساساً بأنك غريب عن الفيلم أو أن الفيلم غريب عنك.
لا أحد ينكر أن خبرة فيرهوفمن جعلته يستخدم ثيمة عالمية كالاغتصاب، محولاً الحالة الاستثنائية إلى حالة شعبية تشبه كل امرأة، وذلك عبر عنوان الفيلم الذي حمل اسم "هي" رغم أنه لا يتحدث سوى عن امرأة واحدة لا يمكن أن يشبهها أحد، في حين أن فيلم "فيكتوريا" الذي جاء يحمل اسم البطلة، يتحدث عن كل النساء، ومن هنا تأتي نرجسيته وقصور المخرجة أن تلعب على وتر الكل الجمعي للنسوة عبر بعض الرمزيات كعنوان الفيلم.
ربما هذه النرجسية هنا شكلية فقط، لكنها بالتأكيد كانت في فيلم "هي" حقيقية، فقد تعمد المخرج التركيز عليها ليضخم تسلط النساء على الرجال، وينتقم عبر هذه الصورة منهن، رغم بضع نقاط ذكية وضعها هنا وهناك، وهذا لم يستطعه فيلم "فيكتوريا" ليصل إلى مصاف الجوائز.
أخيراً، من الواضح كيف عادت الذكورية كثيمة قصدية، وتمرد يُحتفى به، فقد أصبحت قضايا النساء أمرا متراجعاً بعد قضايا العنصرية ضد المثليين والسود، وكأن الحديث فيها وتأييدها أصبح من التراث، ووجدت هذه الثيمة مرادها ومكانها في صناعة السينما وعالم الجوائز الذي لا تنقصه الذكورية والأبوية أيضاً.