August 29, 2002

حتى لا ننسى ما مثّل (ويمثّل) بشير الجميل .. إرث الفاشية اللبنانية

 

أسعد أبو خليل*

يبدو ان صورة بشير الجميل تخضع لعملية تجميل وتغيير خصوصا وان جيلا من اللبنانيين واللبنانيات لم يعاصروا مرحلة صعود الرجل. وبرنامج المؤسسة اللبنانية للارسال في "كلام (بعض؟) الناس" الخاص بذكرى "انتخابه" ونعم "الانتخاب" ، كان أقرب الى التطويب والتبخير منه الى التوثيق. ويريدوننا ان نصدق ان استفتاء الكاميرا هكذا وبالصدفة في شوارع لبنان لم يجد الا معارضا واحدا لبشير الجميل. وساد ترتيب البرنامج خلل فاضح في دعوة ثلاثة مريدين وأتباع للجميل مقابل معارض (شديد التهذيب) واحد، لكن هكذا تتم الموازنة في منطق اليمين الطائفي و"الطائفي" من "الطائفة" لا من "الطائف" على الارجح. وكم كان جميلا ان معدي (او معدات) البرنامج وجدوا تلك الصورة لبشير عندما كان فتى وهو يصافح جمال عبد الناصر لإدراجها في مقدمة البرنامج مع ان هناك صورا عديدة للرجل في سنوات "نضجه" وهو يصافح رجالات اسرائيل بمن فيهم شارون ما غيره وكان (فعل ماض؟) صديقا للعائلة يزورهم في السراء والضراء في بكفيا. لكن علائم تلك المرحلة يعاد رسمها من جديد، والأدوار تعاد كتابتها.
ولقد تعمد جوزيف أبو خليل متجاهلا حضور ذاكرة اللبنانيين التوسع في الافاضة عن لقاءات قليلة عقدها مع عبد الحليم خدام بالنيابة عن بشير من دون ان يذكر للجمهور أخبار لقاءاته العديدة مع الاسرائيليين، وكيف كانوا يستدعونهم، ويذهبون طائعين في مراكب في عرض البحر. ونذكّر ابو خليل كيف انه كان من المتحمسين للعلاقة مع اسرائيل وكيف انه توجه في 12 آذار 1976 عبر البحر لإجراء لقاء مع رابين وآلون، وجمع بعد ذلك بين رجل من مخابرات الجيش الاسرائيلي (وهو الآن وزير الدفاع الاسرائيلي) وبين أمين وبشير الجميل، اللذين كانا يدعوان بنيامين بن اليعازر ب"فؤاد" وهو الاسم الذي كني به عندما كان في العراق. والحقائق أشياء عنيدة كما يقال، ولن تستطيع أجهزة الدعاية اليمينية في لبنان ان تطمرها. وكتاب كرستن شولتز عن سياسة اسرائيل السرية نحو لبنان وكتاب آيان بلاك عن حروب اسرائيل السرية، اضافة الى مراجع اخرى، وثقا لتاريخ العلاقة بالتفصيل.
وتعمل اجهزة الدعاية المتعاطفة مع بشير الجميل على تصوير تحالفه مع اسرائيل وكأنه كان عرضيا او أنه ما كان الا لمحاربة المقاومة الفلسطينية في لبنان، وكأن هدف محاربة الوجود الفلسطيني في لبنان هو هدف مشروع. وحتى لو أقررنا بوجود اخطاء للقيادات الفلسطينية في لبنان فان هذه الاخطاء تصغر اذا ما قيست بآثام اليمين الكتائبي والشمعوني في لبنان الذي كان مسؤولا أكثر من غيره ليس فقط عن اشتعال الحرب الاهلية بل عن تسعيرها واستمرارها. ولسوء حظ اجهزة الدعاية النشطة في ال إل.بي.سي. فان الوثائق الصهيونية تنشر، وهي دامغة في إدانتها لليمين الكتائبي. والشعب اللبناني يجب ان يعلم خلافا لأقاويل جوزف ابو خليل وغيره ان العلاقات الاسرائيلية الكتائبية بدأت قبل ظهور منظمة التحرير الفلسطينية بسنوات وقبل ظهور ياسر عرفات على الساحة اللبنانية، او على اي ساحة. والمؤرخ الاسرائيلي بني مورس نشر مقالة في مجلة "دراسات في الصهيونية" في ربيع 1984 وثق فيها للعلاقة بين حزب الكتائب وبين اسرائيل بين أعوام 1948 و1951 وكان "أبو الزعيم" طفلا آنذاك حتى لا نحمله فوق طاقته. وكانت الدولة الصهيونية تمد هذا الحزب "الوطني"، والذي ابتذل كلمة السيادة لكثرة ما استهلكها لغايات سياسية وطائفية، بالاموال لدعم حملاته الانتخابية. وكان الياس ربابي صلة الوصل مع الصهاينة آنذاك يحاول محرجا في اجتماعاته مع الصهاينة تفسير وتسويغ بعض الانتقادات الخجولة التي تصدر عن أركان الحزب ضد اسرائيل. وكانت القيادة الكتائبية الطائفية تنظر الى التحالف مع اسرائيل كتحالف استراتيجي بين عقيدتين متشابهتين في الصفات الفاشية وفي احتقار "العنصر" العربي. ولم تصرح القيادة اليمينية عن مكنوناتها الا بعد الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982 عندما ظنت انه سيتسنى لها اليوم السيطرة على مقدرات البلد بالتحالف الذيلي مع اسرائيل. وهل تذكرون (وتذكرن) عبارة "المحاكاة الحضارية" بين لبنان واسرائيل والتي قالها شارل مالك في اول مهرجان كتائبي بعد الاجتياح؟ وهل تذكرون (وتذكرن) ان حامي السيادة اللبنانية الحالي أمين الجميل تعامل مع اتفاقية 17 أيار الذليلة لا، لن ننساها كأهم اولوية وطنية، حتى أهم من تحقيق الوفاق الوطني؟ لهذا كم يبدو المشهد مقززا عندما يدلي أمين الجميل الذي استقبل ارييل شارون في دارته في بكفيا بدلوه في موضوع الانتفاضة الفلسطينية؟
ولا شك في ان الحزب الذي ما اعترض يوما على خروقات السيادة عندما تأتي من الغرب ومن اسرائيل وغالبا بدعوة لجوجة منه وهذا الكلام ينطبق على اليمين اللبناني اليوم حارب الوجود الفلسطيني (الوجود، مسلحا وغير مسلح) في لبنان لانه رأى فيه خطرا على برنامجه للسيادة الطائفية ولان القوى الخارجية التي ارتبط معها منذ انشاء دولة اسرائيل دفعته الى لعب هذا الدور. وليس هناك ما يشرف في دور محاربة واستفزاز بشير الجميل للوجود الفلسطيني خصوصا وانه كان معروفا عنه عنفه. وهو صرّح بعد اجتياح 1982 لمجلة "تايم" انه يفكر جديا بتحويل كل المخيمات الفلسطينية الى حدائق للحيوانات او الى ملاعب تنس. وهذا الذي يقولون اليوم انه لم يكن طائفيا (ودليلهم انه أحب واستلطف بعض المسلمين (ومسلمة واحدة) الذين استسهل جرهم وراءه) كان مسؤولا شخصيا عن أبشع الجرائم الطائفية أثناء الحرب، وهو يوم السبت الاسود الذي راح ضحيته مئات من الابرياء، وهذا الحدث ساهم الى حد كبير في دفع قيادته، خصوصا بعد وفاة القائد العسكري الكتائبي وليم حاوي بعدما "زلت رجله" كما قال الحزب. ولا ينقذ هذا الذي حاولوا تسويقه لنا وهو حي، كما يحاولون اليوم تسويقه لنا وهو ميت، من الخزي انه اختلف مرة في ذلك اللقاء الشهير في نتانيا مع بيغن عندما عاد خائبا واشتكى لوالده انهم لم يحترموه. فهذا الخلاف يحدث بين اي دولة وبين حلفائها وعملائها، كما يحدث ان يختلف حميد كرزاي مع الولايات المتحدة. والخلاف مرده الى محاولة ترتيب وضع البيت الداخلي طائفيا ليتسنى له فرض برنامجه للسيادة الطائفية.
ويقولون لنا انه عشق الحرية. جميل. ألهذا يسمون المجازر التي ارتكبها بحق حلفائه في الطرف المسيحي بأنها "معركة توحيد البندقية"؟ أو يذكرون انه خطف مدير تلفزيون لبنان شارل رزق لاعتراضه على نشرة أخبار؟ وداعي الديمقراطية المزعوم هل كان له ان يصل الى سدة الرئاسة من دون اجتياح اسرائيلي للبنان، ومن دون الرشاوي والتهديدات ل"ممثلي الامة"؟ وهل حكم مناطقه الا بالحديد والنار، على طريقة الصهيونية؟ وليمتنعوا عن تصويره لنا بأنه كان مثال رب العائلة الزاهد، فكتاب صديقته الصهيونية برباره نيومن موجود في المكتبات وفيه ما يقول الكثير عن من تربّى على مقولة "الله، الوطن، العائلة".
ولن يغشنا انه في خطاب واحد او اثنين له تكلم كلاما يتضمن مبادئ "تقدمية". فلا غرابة في هذا على الاطلاق. ففي الفكر السياسي هناك تفريق بين "التقدمية" وبين ما يسمى ب"الشعبوية" وهو ركن اساسي في العقيدة الفاشية ويدعو الى تحقيق شعارات العدالة الاجتماعية وانصاف العمال بهدف نشر العقيدة في القطاعات الشعبية. ومن منظور الفكر السياسي فان فكر بشير الجميل وما مثله يطابق بالكامل الفكر الفاشي: عبادة الفرد الزعيم الاوحد، التنظيم المفرط والتراتبية الحديدية، الغلو في نشر عبادة وتأليه الوطن والتقاليد المتوارثة خصوصا تلك التي تتعارض مع التقدم والتنوير، بث مبادئ عنصرية في القومية تعتمد على تفوق عنصر على آخر، الايمان بالذكورة والرجولة على نمط مجتمعات القرون الوسطى وعلى حساب المساواة بين الجنسين، الارتكاز على أكثر من جهاز أمن لنشر الرعب وبسط السيطرة، تحديد خدمة الوطن وفق آراء "الحزب القائد" ووصم كل من يختلف مع الحزب خصوصا من اليسار ب"الخيانة"، تمجيد العنف الممارس وربطه بطقوس شبه دينية، كما ان فكر الحزب، خصوصا في كتابات وخطب بشير (وهناك خطاب طائفي صارخ له لم ينشر الا بعد اغتياله) ورفاقه من قيادة القوات اللبنانية (مثل وليد فارس الذي يكتب اليوم في مجلة اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة)، ينضح بالاصولية المسيحية حتى انه يمكننا القول ان هذا الفكر يماثل الفاشية الاوروبية الجديدة، او ما يسمى ب"اليمين الجديد".
وهناك طبعا حديث عن عدم مشروعية الاغتيال السياسي كوسيلة تغيير، خصوصا في منطقتنا المثخنة بجروح الاغتيالات والقتل. ومن المفيد ان يصل شعب لبنان الى الالتقاء على نبذ العنف كوسيلة تغيير بعد سنوات الحرب الاهلية الضروس، من دون الانتقاص طبعا من حق الشعب العربي كله في مقاومة الاحتلال الاسرائيلي أينما وجد، ولو في بستان صغير. وكما استعملت وسائل الاغتيال السياسي في أكثر من تجربة في مقاومة الاحتلال (فرنسا والجزائر وفييتنام)، فان هناك من ينظر الى اغتيال بشير الجميل (وان سماه سليم عبو ب"روح الشعب" في كتاب له صدر بالفرنسية) كجزء لا يتجزأ من مقاومة الاحتلال الاسرائيلي. واذا كان انصار بشير الجميل مصرّين (ومصرات) على إحياء برنامجه، فعلى معارضيه الاصرار على رفض برامج خلفاء بشير الجميل، خصوصا ما رشح منها في لوس انجلس. ولهذا، فان ابو اياد لم يقصد التباهي عندما قال ان "طريق فلسطين تمر في جونيه". بل كان عليه ان يزيد ان طريق تحرير لبنان من الاحتلال والاختراق الاسرائيلي يمر في جونيه وفي كل المدن والقرى في لبنان، وصولا الى لوس انجلس.

* أستاذ العلوم السياسية في جامعة ولاية كاليفورنيا ستانسلاس وزميل أبحاث في مركز دراسات الشرق الاوسط في جامعة كاليفورنيا في بيركلي

عن السفير

 

SSNP News Center