من سوء حظ الشعب الفلسطيني أن لبنان هو جار لفلسطين. الشعب الفلسطيني في لبنان دفع غالياً ثمن ثقته بالشعب اللبناني، وثمن خدماته السياسيّة والعسكريّة لمختلف القوى والأحزاب والزعامات السياسيّة والطائفيّة. يكفي أن تذكر مثال وليد جنبلاط، عنوان الجحود ونكران الجميل لقوى المقاومة الفلسطينيّة.
قوى الثورة الفلسطينيّة أنقذت وليد جنبلاط وحزبه الطائفي ــ الإقطاعي في عام ١٩٨٣ من هزيمة أكيدة، فردّ الجميل بعد سنوات بالتآمر ضد القضية الفلسطينية وفي التحالف مع أعدائها. لا، وأصبح وليد جنبلاط عنوان الحملة ضد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ــ القيادة العامة وهي التي (خطأً منها، لكن تنفيذاً لأوامر النظام السوري الذي كان الطرفان متحالفيْن معه) قدّمت ضحايا من تنظيمها لإنقاذ زعامة جنبلاط، فيما كان هؤلاء مدرّبين لصدّ عدوان إسرائيل. لكن ليس تورّط قوى الثورة الفلسطينيّة في صراعات طائفيّة لبنانيّة هو موضوعنا.
الأخبار تسرّبت هذا الأسبوع، وانتشرت صور، عن تشييد جدار فصل عنصري صهيوني حول مخيّم عين الحلوة. ولبنان الرسمي تعامل مع الشعب الفلسطيني منذ عام ١٩٤٨ بعداء وعنصريّة وريبة. لا بل إن الدولة اللبنانيّة تعاملت مع الشعب الفلسطيني على أنه موضوع أمني تجب معالجته بالقمع والقوة المسلّحة فقط. ومن المعروف أن الدولة اللبنانيّة التي تخور قواها منذ عام ١٩٤٨ كلّما اعتدت إسرائيل عليها، تفتل عضلاتها وتمارس وحشيّتها ضد المخيّمات ــ فقط عندما تكون منزوعة السلاح. والتآمر ضد الشعب الفلسطيني بدأ قبل نشوء دولة العدوّ وقبل وصول قوافل اللاجئين المطرودين بقوّة السلاح من وطنهم. إن التآمر اللبناني ضد الشعب الفلسطيني سبق عام ١٩٤٨ وهو سهّل لدولة الاحتلال بسط سيادتها واحتلالها ونفوذها.
احتفل لبنان قبل أيّام فقط بعيد الاستقلال الصوَري الذي تستحقّه دولة ميكرونيزيا (الخاضعة لأمرة الحكومة الأميركيّة) أكثر مما يستحقّه لبنان. لكن لو قيّمنا ما يُسمّى برجالات الاستقلال واحداً واحداً، لرأينا أن كل هؤلاء الذين احتفل لبنان بهم في عيد الاستقلال (لسبب ما أضيف اسم رفيق الحريري إلى القائمة، لعلّهم سيزعمون أيضاً أنه قاوم ببسالة حملات الصليبيّين وصدّهم بساعديه، وأنه قاوم أيضاً هجمات المغول) تآمروا ضد الشعب الفلسطيني. من بشارة الخوري الذي كان رئيس الجمهوريّة عندما توصّل لبنان إلى اتفاق تحت الطاولة مع الحركة الصهيونيّة من أجل تخلّي لبنان عن التزاماته نحو الجامعة العربيّة في حرب فلسطين، إلى رياض الصلح الذي تذكره «أوراق حاييم وايزمن» الرسميّة على أنه كان يتلقّى التمويل من الحركة الصهيونيّة، إلى فؤاد شهاب الذي جعل من عقيدة الجيش اللبناني قرينة (سابقة) لعقيدة جيش لحد قبل نشوئه والذي فضّل تعريض لبنان للخطر، على أن يشارك جيش لبنان بقسط بسيط في معركة فلسطين، إلى كميل شمعون (فتى الصهيونيّة الأغرّ) الذي أرسل سرّاً إلى دولة العدوّ رسالة يخبرهم فيها أن «وجود إسرائيل هو ضروري لسلامة لبنان»، إلى باقي زعماء الطوائف الذين شاركوا في الحرب على المقاومة الفلسطينيّة واليسار اللبناني المتحالف معها قبل الحرب وبعدها.
لكن تاريخ التآمر ضد المخيّمات الفلسطينيّة طويل، وطويل جداً. تعود إلى الأرشيف الأميركي وتكتشف مدى الاهتمام الأميركي بوضع المخيّمات وتكتشف أيضاً المدى الذي بلغته الحكومة الأميركيّة في استعمال تمويلها لـ«منظمّة غوث اللاجئين» (أونروا) لتنفيذ أغراضها وأغراض العدوّ الإسرائيلي. لم تكن الـ«أونروا» إلاّ أداة بيد التحالف الأميركي ـ الإسرائيلي وموافقة الكونغرس الأميركي (المعادي لكل ما هو في صالح القضيّة الفلسطينيّة) على تمويل المنظمّة يؤشّر إلى اقتناع اللوبي الصهيوني أن منظمة الـ«أونروا» مفيدة في التجسّس على الشعب الفلسطيني وفي محاولة التأثير في تنشئته من خلال المناهج الدراسيّة والبرامج الاجتماعيّة. وفي وثيقة أميركيّة تعود إلى عهد شارل حلو، بحثت الحكومة الأميركيّة مع مدير الـ«أونروا» بالذات في أمر لعب المنظمّة في المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان دوراً أمنيّاً ــ استخباريّاً (هل كان يشمل الاغتيالات لحساب إسرائيل؟ الوثيقة لا توضّح ذلك). ولم تصرف أميركا النظر عن الفكرة الخبيثة إلا بعد صدور اعتراض قوي من مقرّ الأمانة العامّة للأمم المتحدة في نيويورك (كان ذلك في زمن كانت فيه الأمم المتحدة أكثر استقلاليّة بكثير من اليوم). وهناك وثيقة من وثائق الأرشيف الأميركي في آب ١٩٥١ (رقم ٧٨٣ ألف 00\٨-٦٥١) بعنوان «رغبة الحكومة اللبنانيّة لاقتلاع لاجئين فلسطينيّين من بيروت»، وهي تتحدّث عن مشروع للحكومة اللبنانيّة آنذاك يتضمّن اقتلاع نحو عشرة آلاف لاجئ من مخيّمات في بيروت ونقلهم إلى أماكن أخرى في لبنان. لكن المشروع اللبناني اصطدم بمعارضة من المسؤول الأميركي عن الـ«أونروا» (جون بلانفورد، وكان مستشاراً لرئيس الجمهوريّة الأميركي قبل ان يشغل هذا المنصب)، والذي ــ يتضح من الوثيقة ــ كان يصدر أوامره إلى الحكومة اللبنانيّة وكانت الأخيرة تطيعه صاغرة. ولم تكن معارضة بلانفورد إنسانيّة بل هو خشي من عواقب النقل على دولة العدوّ الإسرائيلي، إذ إنه حاجج بأن النقل قد يؤدّي إلى «أعمال إرهابيّة من قبل اللاجئين». وغيّرت الحكومة اللبنانيّة رأيها بمجرّد أن عارض المسؤول الأميركي الفكرة. كما أن سامي الصلح (الذي جهد كي يبيّض صفيحته لدى الأميركيّين، حسب الوثائق، إما من ناحية التطوّع بأفكار لمحاربة الشيوعيّة أو تقديم العوْن للتوصّل إلى سلام بين العرب وإسرائيل) بحث مع الديبلوماسيّين الأميركيّين في أمر تشتيت فلسطينيّي المخيّمات في لبنان.
لكن لماذا قرّرت هذه الحكومة اللبنانيّة (والقرار ليس وليد هذه الساعة) مباشرة العمل في تطويق المخيّم في عين الحلوة بجدار الفصل العنصري الإسرائيلي؟ ولماذا تواطأت كل المنظمّات الفلسطينيّة ــ من دون استثناء ــ في قرار الحكومة اللبنانيّة هذه؟ ولماذا صمتت كل الطبقة السياسيّة في لبنان عن الموضوع؟ ولماذا تجاهل فريق المقاومة في لبنان ــ وهو الوحيد بين الفرقاء الأساسيّين الذي يتحدّث عن فلسطين وعن تحريرها ــ أمر الجدار؟ ولماذا يتجاهل الإعلام خطورة هذه الممارسة الصهيونيّة الشكل والمنشأ والطابع والقصد؟
إن التعامل مع المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان لم يكن يوماً شأناً خاصّاً بالحكومة، بل هو ينبع دوماً من أفكار إسرائيليّة تُنقل إلى الحكومة اللبنانيّة عبر مفاوضات العار (الجارية حتى الساعة في الناقورة بضغط من الحكومة الأميركيّة التي تضع شروطاً سياسيّة باهظة على لبنان مقابل تلقّي لبنان سلاحاً لا يفي إلا بغرض قتال المتظاهرين والمعارضين للحكم ولقتال المخيّمات الفلسطينيّة ــ حتى لو شملنا في جردة التسليح الأميركي طائرات رشّ المبيدات التي تعلنها قيادة الجيش اللبناني بأمر من السفارة الأميركيّة على أنها مساهمة في «سلاح الطيران» ــ أي سلاح رشّ المبيدات). ودور الحكومة الأميركيّة في بناء جدار العار لا يزال مجهولاً حتى الساعة.
إن هذا القرار الذي تنفّذه الحكومة اللبنانيّة لا يمكن أن يصدر من دون أوامر أو إيعاز أو ضغط من السفارة الأميركيّة في بيروت، والتي تدير خفية ــ منذ إنشاء وكالة «غوث اللاجئين» في لبنان بالنيابة عن العدوّ الإسرائيلي ــ ملف فلسطينيّي لبنان. ولم توضح الحكومة اللبنانيّة التي التزمت الصمت حول القرار المشين عن اسم الشركة الهندسيّة التي نفّذت المشروع القمعي. هل الحكومة الأميركيّة كانت قد أرسلت إلى حكومة لبنان الخطط الهندسيّة لحائط الفصل العنصري من «سلاح الهندسة» في الجيش الأميركي للاقتداء بها، أم أن الخطط الهندسيّة هي عينها التي نفّذها جيش العدوّ حول أراضي فلسطين في الضفّة الغربيّة؟ وإذا كانت كذلك، فكيف وصلت إلى لبنان، لأن تشابه الجدران لا يأتي صدفة.
لكن وضع المخيّمات الفلسطينيّة هو الموضوع الذي تضمحلّ فيه الانقسامات السياسيّة اللبنانيّة وتزول فهي التصنيفات الخندقيّة بين المعسكرات المتنازعة. في هذا الموضوع، لا يمكن الفصل بين ٨ آذار وبين ١٤ آذار. لم يسجّل أي من الطرفيْن فرقاً عن الطرف الآخر في التعامل مع الملف. على العكس، فإن الطرفيْن تعاونا وتعاضدا، حتى في مراحل احتدام الصراع بين الأطراف. وفي مجزرة «نهر البارد»، شاركت كل الأطراف في لبنان في الهتاف والتطبيل للجيش اللبناني وقوى الأمن التي شاركت في عمليّة نالت إعجاب الحكومة الأميركيّة والإسرائيليّة وكل الأنظمة العربيّة من دون استثناء. وحده حسن نصرالله رفع في البداية شعار «المخيّم خط أحمر»، لكنه سرعان ما أهمل الشعار ولم يتميّز موقف الحزب أبداً عن مواقف باقي الأطراف خلال العمليّة التي قال عنها ذات يوم أحمد فتفت إنها «لم تقتل إلاّ مدنيّاً واحداً في المخيّم»، فيما كان العدد الحقيقي للضحايا المدنيّين يفوق الأربعين ــ بين مدني ومدنيّة. والغريب في تلك المناسبة أن الجيش اللبناني أصرّ على حسم «المعركة» بسرعة شديدة لم تُعرف عنه في تاريخه الطويل من التقاعس على مرّ عقود طويلة عن مهمّة الدفاع عن لبنان بوجه العدوّ الإسرائيلي.
والمخيّمات الفلسطينيّة كانت منذ إنشائها هدفاً للحروب والاعتداءات من قبل مختلف الأطراف اللبنانيّة وفي مراحل مختلفة. فقد كانت منذ إنشائها سجوناً أقامتها الدولة اللبنانيّة (بتواطؤ أكيد مع العدوّ الإسرائيلي الذي كانت الحكومات اللبنانيّة المتعاقبة تتواصل معه سرّاً عبر رئاسة الجمهوريّة مباشرة ومن دون علم رؤساء الحكومات). وفؤاد شهاب كان شديد الحرص على أمن العدوّ الإسرائيلي وكانت عقيدة الجيش اللبناني على أيّامه هي نسخة مبكِّرة من عقيدة جيش أنطوان لحد. و«المكتب الثاني» الذي أهّل لدخول لبنان الحرب الأهليّة، لم يكن يكترث لكثافة الوجود الاستخباراتي في لبنان ولأعمال التجسّس (إلا إذا كانت سوفياتيّة كي يقبض ثمنها من الحكومة الأميركيّة، كما حدث في قصّة طائرة الميراج ــ والتي كانت إدارتها وإخراجها مستقيين من فيلم فؤاد المهندس في دور «رضا بوند»، إذ إن سامي الخطيب دخل إلى الشقّة مُطلقاً الرصاص في كل الاتجاهات وكاد أن يودي بحياة الجميع في الشقّة). ولم يكن «المكتب الثاني» يصدّ الاختراق الموسادي في كل لبنان، لكنه كان يحرص على قمع الشعب الفلسطيني في لبنان وعلى فرض جوّ من الترهيب فيه. وكان زعران وشبّيحة هذا «المكتب» يتلذّذون في تطبيق قرار منع التجوّل على سكّان المخيّم وعلى التلصص المفضوح على نسوة المخيّم في الليل. ولم تكن الانتفاضة المسلّحة للشعب الفلسطيني في لبنان إلا تعبيراً ليس فقط عن إرادة تحرير فلسطين وإنما أيضاً عن التمرّد على سنوات طويلة من التنكيل والتعذيب والظلم من قبل أجهزة الدولة اللبنانيّة (المتحالفة مع العدوّ الإسرائيلي والمتواطئة في عهد سليمان فرنجيّة على ضرب المخيّمات الفلسطينيّة).
أما في سنوات الحرب الأهليّة فقد كانت المخيّمات أهدافاً لأعداء متعدّدين: من العدوّ الإسرائيلي الذي لم يميّز يوماً بين مقاتل ورضيع إلى الجيش اللبناني الذي حاول في عام ١٩٧٣ (وبِحَثّ ومباركة أميركيّين) تكرار مجازر «أيلول الأسود» لكنه فشل فشلاً ذريعاً بسبب مقاومة شرسة من الأبطال الفلسطينيّين وحلفائهم اللبنانيّين. كما أن الجيش اللبناني شارك في معارك القوى الانعزاليّة ضد المخيّمات الفلسطينيّة في ضواحي بيروت الشرقيّة (تل الزعتر وجسر الباشا وضبيّة).
كما أن المفارقة هي أن رئيس الجمهوريّة الحالي شارك شخصيّاً في دكّ تل الزعتر بالمدفعيّة (كما أنه زها ذات يوم بأنه هو وضع خطة اقتحام المخيّم) كما أن كتاب موردخاي نيسان عن طريد العدالة، أبو أرز، يذكر أن الأخير جلس إلى جانب ميشال عون في غرفة العمليّات في مجزرة تل الزعتر (والتي شارك جيش النظام السوري فيها أيضاً).
ووليد جنبلاط خذل القوى الفلسطينيّة التي آزرته ودافعت عن إقطاعه الدرزي، فإن حركة «أمل» هي أيضاً خذلت القوى الفلسطينيّة بعدما كانت حركة «فتح» هي التي درّبت وجهّزت وسلّحت ميلشيا «أمل»، وأمدّت الحركة بأفعل كوادرها العسكريّة. وحركة «أمل» شنّت تلك الحرب الظالمة في الثمانينيات (على امتداد ثلاث سنوات طويلة: ١٩٨٥-١٩٨٨، فيما عُرف بـ«حرب المخيّمات» فيما كان يجب أن تُسمّى بـ«الحرب على المخيّمات») لحساب النظام السوري. لكن المعارك والبطولات الدونكيشوتيّة ضد المخيّمات لم تنتهِ، إذ إن الجيش اللبناني (المُتسلّح بعقيدة قتاليّة جديدة تعادي إسرائيل - أي أنها تعترف بأن الجيش اللبناني لم يكن يعادي إسرائيل على مرّ عقود التاريخ اللبناني المعاصر) فتحَ (لحساب قوى خارجيّة على الأرجح، وبحماسة مشبوهة من السفارة الأميركيّة ومن أنظمة الخليج وبتأييد أيضاً من النظام السوري) معركة «نهر البارد»، وصاحب المجزرة المهرجان اللبناني المألوف من العنصريّة والعنجهيّة الفينيقيّة.
تتحمّل كل القوى السياسيّة من دون استثناء المسؤوليّة عن بناء هذا الجدار العنصري. هذا زرع للعقيدة والممارسة الصهيونيّة الإسرائيليّة في قلب لبنان.
وعليه، يجب أن تتوجّه الحملة المدنيّة ضد الجدار العنصري (الذي سيمتلئ عمّا قريب بشعارات عن تحرير فلسطين وعن ذم السلطة اللبنانيّة). وهذا الجدار يستحق التوأمة مع جدار الفصل العنصري في داخل فلسطين، وتستحق السلطة اللبنانيّة أن تدافع في المحافل الدوليّة عن جدار الفصل الإسرائيلي لأنها باتت متساوية في الأساليب العنصريّة القمعيّة مع العدوّ الإسرائيلي.
فات أهل السلطة الطائفيّة في لبنان أن تدرك أن جدار الفصل العنصري الإسرائيلي هو عنوان معاداة إسرائيل في الغرب، وهو يبرز دوماً في الملصقات المُنادية بالمقاطعة وفي المؤتمرات المعادية لاحتلال فلسطين والأراضي العربيّة. إن هذا الجدار سيصبح مادّة دسمة ومفيدة في الدعاية الصهيونيّة حول العالم لأنها ستبرز صور الجدار اللبناني كإسناد لحجّتها بجدوى الجدار في فلسطين المحتلّة وموافقتها مع المعايير الإنسانيّة. لا يمكن أن يتوقّع المرء من الدولة والمجتمع في لبنان حساسيّة نحو الشعب الفلسطيني بعدما كان لبنان أسوأ دولة في معاملة الشعب الفلسطيني بين الدول العربيّة (يُراجع كتاب لوري برند عن «الفلسطينيّون في العالم العربي»، وكتاب ريكس برَينن عن «المأوى والنجاة: منظمّة التحرير الفلسطينيّة في لبنان»). وتزامن نصب الجدار مع طرد لاجئين سوريّين من عكّار، في أجواء صارخة في عنصريتها ضد الشعب السوري والفلسطيني.
لا يُعوَّل على ما يُسمّى اعتباطاً بـ«المجتمع المدني» في لبنان. إن هذه المنظمّات في لبنان والعالم العربي، لأسباب بنيويّة وتمويليّة، لا تتحرّك ولا تنشط تحت عناوين لا تتوافق مع أجندة ما يُسَمّى ــ اعتباطاً أيضاً ــ بـ«المنظمّات غير الحكوميّة» الغربيّة والتي ترعى وأحياناً تُسيّر الكثير من منظمّات «المجتمع المدني». إن هذا المجتمع يتحرّك بقوّة وسرعة في قضيّة وقوع ضحايا من الغربيّين، مثلما اندفع ناشطون وناشطات إلى ساحة بيروتيّة يهتفون بحياة الرجل الأبيض ويقفون وراء السفير السعودي الذي قادهم في معركة الدفاع عن حريّة الغرب في إهانة الإسلام والمسلمين. كما أن الشباب اللبناني تفجّع على مدى أشهر في قضيّة «جو سوي» الفرنسيّة، فيما هو لم يصبح «جو سوي» عندما يكون الضحايا من الملوّنين حول العالم. هؤلاء لا يُعوّل عليهم في قضيّة تمسّ حريّة وسلامة وكرامة المخيّمات الفلسطينيّة. هؤلاء يتحرّكون للغناء والرقص والتهريج من أجل «السلام» في مشاريع للأمم المتحدة (والسلام المُموّل من دول الغرب والأمم المتحدة لا يعني إلا السلام مع العدوّ الإسرائيلي).
والفصائل الفلسطينيّة في المخيّمات مشاركة في هذه المؤامرة. وحركة «حماس» وحركة «فتح» باتتا ممثّلتيْن لدول خليجيّة في المخيّمات. «حماس» و«فتح» تنتميان إلى منظومة أنظمة الخليج أكثر مما تنتميان إلى الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة. لكن كان الأمل معقوداً على الفصائل الفلسطينيّة الحرّة التي لا تنتمي إلى المنظومة الخليجيّة المتحالفة جهاراً مع دولة العدوّ الإسرائيلي. والرفيق مروان عبد العال من الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين لم يعطِ أجوبة شافية ومقنعة في مقابلة مع «وكالة وطن» عن الجدار، إذ قال بالحرف عن أسباب تشييد الجدار: «إن هذا السبب إن كان مُحقّاً إلاّ أنه ليس كافياً ليكون مُقنعاً وخاصّة عندما يكون مفعوله إيجابيّاً». يحتاج الموقف الفلسطيني الحرّ إلى وصف أقوى وأشدّ من هذه العبارات (ويحتاج المرء إلى منجم مغربي لفك طلاسم عبارات عبد العال). إن تمرير هذا الجدار سيتبلع جدراناً حول كل المخيّمات الفلسطينيّة، وقد يأتي يوم تبني فيه السلطة في لبنان جدران فصل طائفي حول أماكن إقامة الطوائف الصغيرة المفتقرة إلى حمايات أجنبيّة.
لكن ماذا عن الشعب الفلسطيني في مخيّم عين الحلوة وفي باقي المخيّمات؟ كيف يستكين وكيف يسمح للسلطة القمع اللبنانيّة (المرتهنة للخارج) بوضع رمز إسرائيلي حول مخيّم فلسطيني؟ الذين علّموا الشعب اللبناني الثورة باتوا هم يحتاجون إلى تلقّي دروس في الثورة والتمرّد؟ أم أن محمد دحلان (ومَن وراءه في دول الخليج) فرض سلطانه وقيَمه على أهل المخيّمات؟ إن بقاء هذا الجدار هو تكريس لشبهة التعاون اللبناني الرسمي مع العدوّ الإسرائيلي. ولماذا يصمت فريق مقاومة العدوّ الإسرائيلي عن الجدار؟ إن الإصرار على الحفاظ على ضابط في أمن المطار دفع حزب الله إلى زلزلة الأرض تحت أقدام خصومه، أفلا يحتاج العداء لإسرائيل إلى أن تتزلزل الأرض تحت هذا الجدار، وتفتّته؟ إن الطريق إلى مواجهة العدوّ الإسرائيلي والدفاع عن أبسط الحقوق الإنسانيّة للشعب الفلسطيني في لبنان تمرّ عبر هدم هذا الجدار، فمن يبادر إلى هدمه يا ترى؟
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)