المدونة

نعرض أحدث الآراء و التحليلات لأبرز مدوني هافينغتون بوست عربي

محمد النوبي  Headshot

ما يعلمنا إياه السفر!

تم النشر: تم التحديث:

السفر لا يجعلك فقط تتعرف على أماكن لم تزُرها من قبل أو زُرتها، ولكنك توطّد معرفتك بها عبر زيارات متعددة، ولا على بشر يشاركونك النوع، ولكنهم يختلفون عنك في كل شيء، في الخلفية الثقافية والعادات وغيرها بدرجات متفاوتة، إن السفر لا يكسبك فقط خبرة بالبشر والأماكن والتاريخ والعلاقات البشرية، ولكنه يقدم لك ذاتاً كنت تظن أنك خبرت كافة ملامحها، فتكتشف أنك بالكاد تعرفها، إنها ذاتك لا كما تطالعها في المرآة كل صباح، ولكن عبر ثنايا النفس التي لن نستشعر وجودها في الظروف العادية، والتي تخبئ داخلها ما لم ندركه قط إلى أن نخوض التجربة، ولقد صدق الفاروق رضي الله عنه، حين سأل عن أحدهم، فردَّ عليه أحد الحاضرين: "نعم أعرفه"، فسأله: "هل صاحبته في سفر؟"، فاجاب: "لا"، فكان رد عمر الحاسم: "إذاً لم تعرفه".

إن السفر ينزعك من شرنقة الاعتياد، ويلقي بك في ساحات الدهشة والغرابة، وهنا ستكتشف إن كنت قادراً على أن تكون نفسك كما عهدتها، أو عليك أن تبدأ مرحلة التحولات.

في السفر يتاح لك الانعتاق من ربقة منظومة قيمية لم تختَرها، ولكنك رضيت بها؛ لأنك لا تقدر على تحمل تبعات كلمة "لا"، منظومة تدقق في كل همساتك وتحاسبك أحياناً على أحلامك إلى منظومة أخرى لا تعرفك ولا تعرفها، فيتاح لك أن تُخلق منظومتك الخاصة دون أن تبالي، فهنا لا يعرفك أحد، ولن يلومك أحد، إنك تقتنص الحرية التي لم تختبرها من قبل لتلوك طعمها بتلذذ يقصي الحرمان الذي عانيته قبل وستعانيه لاحقاً.

أن المسافرين ليسوا على شاكلة واحدة، ولا يخرجون من التجربة بنفس الخبرات حتى لو توحَّد مكان السفر وزمانه، فمنهم من يركز اهتمامه على غرض واحد كالعمل أو اللهو أو العلاج، وهؤلاء تتشكل لديهم صورة المكان من خلال عدسات الغرض الذي جاءوا إليه، والذي يعتمد بطبيعة الحال على مدي ما صادفهم من نجاح أو فشل.

والبعض يذهب بغرض السياحة فيلمّ بطرف من كل شيء، وإذا كانت وجهته بعض البلدان التي تتعاطى السياحة وتجيد استخدام أدوات الزينة عبر جولات سياحية منظمة ومحكمة، فسيرى المسافر القشرة الخارجية للمكان، وستكون الصورة غالباً ذات ظلال موحية تنتج من كون الجزء هيَّج الخيال فرسم صورة للكل على غرار ما عاين، مما يستثير دائماً الحنين للعودة؛ لأن الانطباعات الأول تدوم.

وهناك المسافر الأكاديمي الذي حتى وإن لم يكن ينتمي مهنياً إلى الجامعة، ولكنه يجهز نفسه قبل السفر بالقراءة عن البلد بشكل جيد، ويخطط لرحلته بشكل دقيق، ويصطحب معه كثيراً من الكتب والمطبوعات، أو يخزن في ذاكرة حاسبه الآلي المواقع الهامة التي تتحدث عن هذا المكان، ويتلمس خبرات من سبقوه إلى مكان السفر، فيذهب إلى الأماكن التي قرأ عنها متلمساً تجسيداً واقعياً لما قرأ، وهنا تغيب متعة الاندهاش والإحساس الذاتي بطزاجة التجربة، فكل ما في الأمر أنه تم تحويل الصورة الذهنية إلى واقع ذي أبعاد ثلاثية قد يختلف قليلاً، ولكنه لا يبعد كثيراً عما تم اختباره نظرياً.

أما الأسوأ فهم أولئك الذين يطلقون على أنفسهم "رحالة"، فهؤلاء لا يملكون إلا انطباعات سطحية وعابرة عن الأماكن التي يمرون بها متعجلين؛ لأن غايتهم زيارة أماكن كثيرة في وقت محدود، رغبة في إثارة دهشة المعجبين والمتابعين، وخاصة مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، إنه التعجل الذي يفسد كل شيء.

ومنهم من يترك ذاته للتجربة فاتحاً لها أبواب المشاعر والعقل معاً، يقرأ حين يحتاج الأمر، ويلتقي السكان المحليين في أماكن تجمعاتهم، ويسأل ويتعمق في دراسة ما يراه حوله من ظواهر، وتكسبه خبرته قدرة على التقاط التفاصيل الدقيقة للمكان والبشر، وهو يتعلم من التجربة ويعمقها، إنه النوع الأكثر خطورة؛ لأن حب التجربة قد يقود المسافر إلى ما لا يتمنى، ولكنه الأكثر إمتاعاً.

وفي النهاية.. يقولون إن مَن لم يرَ إلا بلده يكون قد قرأ الصفحة الأولى فقط من كتاب الكون.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.