عندما يهدأ المهاجرون ويبدأون بالاستقرار على متن سفينتنا أكواريوس، تبدو على قسماتهم كل ملامح الإرهاق، بعضهم يلقي بنفسه على سطح السفينة البارد لينام، شاهدت مهاجراً قام بخلع ملابسه كاملة وجلس على الأرض في ذهول قبل أن يساعده أحد أفراد "أطباء بلا حدود"، هذه رحلة طويلة، والفكاك من الموت بعد رؤيته أمر صعب التصور.
ستظل ثورات الربيع العربي فعلاً شعبياً بامتياز، مهما روَّج أعداؤها بأنها مؤامرة أو إملاء من هنا أو هناك، وهذا ما ينبغي التذكير به والتأكيد عليه دوماً؛ لأنه لا ثورة من دون شعوب، ولا شعوب حية من دون ثورة تدافع عنها، وتفتديها بالنفوس والعقول والبرامج والبدائل، كما تقاوم في سبيل بقائها في بؤرة الميادين والشوارع، كما في منصات الإعلام ومراكز البحث وصناع القرار في الداخل والخارج.
مرّت تقلُّبات كثيرة بِمصر بعد سقوط آل مُبارك، وكالعادة لاعِبُنا الخلوق عرَف لِنفسِه مقامها فالتزمه، كان دائم الصّمت إلّا في مناسبات قليلةٍ جدّاً، كان مُواطِناً عادياً يهتمّ بأمرِه وأمرِ مِهنتِه ومُحِبّيهِ فقط، يبدو أنّ ذلك لم يعُد يرُوقُ لحُكومة الانقلاب ولا يكفي، فإذا لم تَكُن معي فأنت ضِدّي.. لم يتكلّم أبو تريكة حتى بعدما أرادوا تشويه صورتِه، وهيهات لهم ذلك، فأبو تريكة ملَك القُلوب بسنواتٍ قبل أن يأتي انقلابهم
ودّعتها في عيد ميلادي الثامن عشر، واحتفلتُ في الأعالي بين السُّحب، فلم أشأ حينها أن أكونَ مُتشائمةً لا متأملةً العودة، أو جحودةً تنسى النعمة، أو حتى قاسيةً تهوى الفُرقة، ولكني كنتُ أتأمَّل الموضوع بمنطقيةٍ مطلقة تكفيني لأقولَ بصوتٍ أجَش مخذول: "هذه البلاد لم تعد تصلح للحياة"، لم تعد تلائمني لأنموَ وأزهرَ وأنشرَ عبيري في أجوائها
قد نحكم على تلك النهايات حسب عقائدنا، وإيماننا، أو تخيلاتنا، كل منها يشكل تلك الصورة العمياء، المحصورة في عالم الغيب، ولكن التفاوت في ملامحها هو خيال كل شخص عن الآخر، ومشاعرهم تُظلل عليها بتوقعات عديدة تريح الخوف الأزلي من هذا الموت، وما يلحقه بعدها.
على مدار الحملة الانتخابية الشرسة بين دونالد ترامب وهيلاري كلينتون، حاولت هذه البرامج السخرية من خطاب ترامب المتسم بالنزعة الشخصية والاندفاع وغير العقلانية وعدم الاستناد للحقائق، وقد حاولت بنفس القوة دحض أكاذيبه (Fact Checking) التي كان يلقيها يميناً ويساراً في كل وسيلة إعلام يستخدمها تقليدية كانت أو حديثة. ولكن يبدو أنها لم تنجح، فقد أصبح الواقع الآن أن ترامب هو الرئيس المنتخب، الذي سيخلف أوباما
نا الطفل الذي ظنَّ نفسه مظلوماً وهو ظالم، من رأى نفسه لا يمتلك ما عند الآخرين فتمنَّاه، ويا ليته ما تمنَّاه، من رأى نفسه في سجن انفرادي، هو في زنزانة وطفولته في زنزانة أخرى، أي سجين أسمى أمانيه الهروب -وهذا كان حاله- وحينما يفر من سجنه يسعد بفعلته، لكنّ هذا لم يكن حاله.
لم أستوعب مُطلقاً المبرر وراء حديث أم مع أولادها بالإنكليزية طوال الوقت إلى الحد الذي يجعلهم يتعجبون لسماع كلمات عربية! لم أستوعب حتى الآن عدم شعور هؤلاء بوجود أي مشكلة واعتقادهم المؤسف أن جهلهم بلغتهم الأساسية أمر مُضحك ودليل على مدى ثقافتهم الواسعة! والنتيجة الحتمية، هي ضياع هويتنا رويداً رويداً إلى أن نصير يوماً ما عدماً ومسخاً مُشوهاً غير معروف الملامح.
صمتت قليلاً، ثم ذرفت الدموع وقالت: ماما بتتذكري ليلي؟ اشتقت لها كتير..
لم أبتعد بالذاكرة.. ليلي؛ الطفلة الأميركية المسيحية، التي لا تنساها لين ولا أنساها، نشتاق إليها ونفتقد حضورها اللطيف، ولطالما رأيت أنها من أفضل الأطفال الذين قابلتهم في حياتي وأكثرهم أدباً واحتراماً واتزاناً، كانت جارتنا في جدة، ثم عادت مع عائلتها للاستقرار في الولايات المتحدة الأميركية.
تخيلت مشاعر هذا الرجل في أيامه الأولى في مهنته: هل كان يتألم لألم كل حالة يعاينها ويمارس مهمته معها؟ ما نظرة هذا الرجل للموت؟ هل أَلِفه وتقبّله كجزء أساسي في حياته؛ بل من المفترض أن يصدر إليه كجالب للرزق؟ أم أنه يخشاه هو الآخر كخشيتنا له؟
ولكن، هل الحانوتي فقط هو من يعيش حياته مع الموت؟ ألم يصبح الموت رفيقاً يومياً لرحلاتنا في نشرات الأخبار
ويضيف الرجل قائلاً: كم كنت أشعر بالخجل وأنا مختبئ في بيتي والجوع يداهمنا، كنت أنظر إلى عائلتي وأتمنى الموت ألف مرة ومرة. الدموع تملأ عيون الزوجة على زوجها، الذي يبكي من شدة الحرقة، وتقول له: كان الله بعونك ومعك، وأطفاله الصغار يبكون ويصرخون: بابا بابا (لا تروح وتتركنا).
لطالما حدثنا جدي، الذي عاصر كلاً من الحكم العثماني والانتداب البريطاني والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وأتقن لغات عدة؛ كيف كنا وليمة شهية لا ينفك مستعمر يلقي قيوده علينا حتى ينهبنا الآخر، كيف تنقلنا من مجزرة لأخرى ومن تهجير لآخر، كيف باعنا هذا واشترانا ذاك، كانت تخنقه العَبَرات، وتغوص عيناه إذا ما تذكر أصدقاءه رفاق الوطن، وقد ذهب بعضهم مهاجراً أو أعدم على عتبات قريته
تعاني الشعوب العربية -في مجملها- من وهن عام في ثقافة الثقة بالنفس، فلم تستطعْ كل النكبات التي تجرعها الإنسان العربي أن توقظ شعوره بأنه يستطيع -وبدون الاعتماد على الآخرين- ممارسة نشاطه العقلي، وشقّ طريقه الخاص في فضاء العالم المزحوم.
كأفراد يجب علينا أولاً التوقف عن سخافات اتخاذ المواقف الدفاعية, أنا لست مسئولا عن اختيارات غيري و سلوكياته لمجرد اشتراكه معي في عقيدة أو وطن ولست مكلفاً بالاعتذار عن أفعال غيري ولكن..
أن كنا نرفض هذا الواقع و تلك الظواهر ونصبوا إلى التغيير فعلينا أن نخرج من حالة التكلس العقلي التي تقصر ردود فعلنا على الهستريا الانفعالية قصيرة الأمد وننتقل إلى حالة عقلية ايجابية نحلل فيها الظواهر و نحدد مواقفنا بإزائها بوضوح ونطرح الأسئلة الجادة حولها و نبحث عن إجاباتها دون إضاعة الوقت وتشتيت الانتباه بترديد كليشيهات وشعارات معلبة .
ترابط متميز بين الشعب وقيادته، وشعب إرادته أقوى من بنادق العساكر ودباباتها؛ ليسجل التاريخ أن أحد الرؤساء استنجد بشعبه قبل جيشه لينقذه، فلبَّوا النداء ونصروه، ولم ينادوا باسمه أو اسم زعيم؛ بل رددوا "باسم الله والله أكبر" وتلك دعوة الصادقين.
هنا نتساءل: لماذا وقف الشعب التركي مع أردوغان؟ ماذا فعل لينصره شعبه في الوقت الذي يعاني فيه أكثر من بلد عربي من مطالبة بإسقاط النظام وانقلابات وتمرد على السلطة الحاكمة والحاكم؟
فعلى سبيل المثال، لدى زيارتنا لدار أيتام إن طلب منا مقدم الرعاية عدم توزيع الحلوى على الأطفال وتسليمها للإدارة، تجاهلنا مطلبه؛ ظناً منا أنه سيأخذ الحلوى لنفسه، ولربما آذينا الأطفال بتصرفنا هذا.
وإن عاقب مقدم الرعاية الطفل لتأديبه، بما يتناسب مع سن الطفل وخطئه ودون استخدام الضرب، اعتقد الزوار أن مقدم الرعاية ظالم يخلو قلبه من الرحمة، على الرغم من أننا في بيوتنا نعاقب أطفالنا من باب التأديب والتربية
أصابني أرقٌ عارض بسبب ضيق عابر، فقال لي صديق: إذا آويت إلى فراشك فاندمج في تسبيح دائم ولا تنشغل بعدده، قل: سبحان الله سبحان الله.. حتى تتعب.. حتى تنعس.. حتى تنام!
من شاهد مسلسل " التغريبة الفلسطينية " ربما يذكر مشاهد " رشدي "، ابن " خضرة " والعبد شهيد ثورة الثلاثينات، وهو يعبر الخط الأخضر بعد احتلال الضفة عام 1967 بمساعدة شاب من فلسطين المحتلة عام 1948، ليرى أمه التي فرقت النكبة بينهما، فخرج مع أخواله إلى المنفى حيث أقاموا في مخيم طولكرم ، وبقيت أمه وراء الحدود، وانتهى بها الأمر إلى الإقامة في " أم الفحم " .
تلك المشاهد بنيت من تجربتي تلك .
سعى التونسيون لحل مشكلاتهم السياسية بالطرق السلمية من خلال آلية التوافق والتسويات، بعيدا عن العنف والإقصاء. ولعل هذا ما يعطي مشروعية الحديث عما يمكن تسميته الاستثناء التونسي.