|   

النسخة: الورقية - دولي

بعد عزلة سياسية واقتصادية استمرت 33 سنة، بدأ السودان يتنفس الصعداء استعداداً لتحرره من قيود المقاطعة التي قادتها الولايات المتحدة، وانفتاحه على العالم، مستفيداً من علاقاته العربية التي ساهمت في إعادة تدفق الاستثمارات الى مختلف قطاعاته الاقتصادية، فضلاً عن استعداد أوروبي وروسي وصيني لتنفيذ سلسلة مشاريع استثمارية في الزراعة والصناعة والنفط. لذلك، توقع بدر الدين محمود، وزير المال والاقتصاد، أن يحقق بلده أفضل معدلات النمو في أفريقيا ببلوغه 4.9 في المئة في موازنة عام 2017، مقارنة بمعدل النمو في الإقليم الذي لم يتعدّ حاجز 1.6 في المئة، وأن تسجّل نسبة الأداء للموازنة ما لا يقل عن 62.4 في المئة.

الإدارة الأميركية المسؤولة عن ملف العقوبات الاقتصادية، ودعماً منها لمسيرة الاقتصاد السوداني الجديدة بدءاً من العام المقبل مع إدارة الرئيس دونالد ترامب، حرصت على إبلاغ المصارف والمؤسسات المالية الدولية (شرحاً وتوضيحاً ) القرارات التي صدرت أخيراً في واشنطن، والمتعلقة برفع الحظر عن التحويلات المصرفية الى الخرطوم، وكان تسبّب في تدنّي نمو الاقتصاد الكلي وزيادة أعباء معيشة السودانيين، نتيجة تخوّف البنوك من تطبيق العقوبات عليها، ما أثر سلباً في تدفّق الاستثمارات، حتى أن البنك الدولي جمّد في محفظته 140 مليون دولار مخصصة لمشاريع ومساعدات فنية، بسبب الحصار الاقتصادي.

منذ أيلول (سبتمبر) 1983، يعيش السودان في عزلة سياسية واقتصادية، بدأتها الولايات المتحدة عقب إعلان الرئيس السوداني السابق جعفر نميري ما أطلق عليه النظام آنذاك «قوانين الشريعة الإسلامية». وإذا كان النفط هو السبب الرئيس للحصار الاقتصادي، فقد خسر السودان نتيجة تأخر استغلاله لأكثر من 15 سنة، نحو 100 بليون دولار، حتى توّج هذا الحصار بانفصال الجنوب في تموز (يوليو) 2011، وانفصلت معه عائدات نفطية تزيد عن سبعة بلايين دولار سنوياً. وبدلاً من أن يرفع الحصار الاقتصادي، بعد الانفصال، فقد شهد البلد تأجيجاً للصراع في جنوب كردفان والنيل الأزرق فضلاً عن منطقة دارفور.

وهكذا دفع السودان ثمناً غالياً لهذا العزل، الذي أدى الى هروب الاستثمارات وتراجع مستوى دخل الفرد وارتفاع نسبة الفقر الى 46.5 في المئة، وتدهور القطاعات الاقتصادية خصوصاً الصناعة والزراعة والتجارة والمال والمصارف. وبرزت في مقابل ذلك، تجارة السوق السوداء، لا سيما بالعملة الصعبة، ما أفقد الجهاز المصرفي واحداً من أهم مصادره، وساهم في تدهور قيمة الجنيه وارتفاع الأسعار ونسب التضخم.

وبسبب سيطرة أميركا على المؤسسات المالية الدولية، حرم السودان من القروض والمنح والهبات، علماً أن ديونه الخارجية بلغت نحو 45 بليون دولار. لكن اللافت أن أصل الدَين فقط 17.2 بليون دولار بما يعادل 38.3 في المئة من المجموع، والمبلغ المتبقي أي 27.8 بليون دولار وبما يعادل 61.7 في المئة، هو عبارة عن فوائد وغرامات متراكمة بسبب التأخير بدفع الأقساط المستحقة. لذلك، يطالب السودان دول نادي باريس، وكذلك الدول الصديقة والمؤسسات المالية الدولية، بإعفائه من دفع هذه الغرامات، وإعادة جدولة بقية الدَين، لأنه كان طيلة 33 سنة يتعرض لقوة قاهرة متمثلة بالعقوبات الاقتصادية الأميركية.

لا شك في أن الموقع الاستراتيجي والجيوسياسي للسودان يجذب استثمارياً كل دول العالم. وبتفاعله مع التطورات الأمنية والسياسية التي تشهدها المنطقة العربية، وبروز موقفه الإيجابي الداعم لسياسة المملكة العربية السعودية قي قيادتها التحالف العربي لإنقاذ اليمن، عاد الاهتمام السعودي بقوة للاستثمار في السودان والمشاركة باستغلال ثرواته.

وبلغة الأرقام، تبلغ الاستثمارات السعودية الفعلية في السودان نحو 11 بليون دولار، يتوقع أن تتضاعف عام 2020، مع تنامي تدفق استثمار القطاع الخاص السعودي الى مختلف قطاعات الاقتصاد السوداني، خصوصاً أن التوجه السعودي يركز على الإنتاج الزراعي في ظل «رؤية 2030»، وقد خصصت حكومة الخرطوم أكثر من مليون فدان للاستثمار السعودي، في إطار خريطة خاصة باستثمار المملكة لتأمين الغذاء الزراعي والحيواني.

إضافة الى ذلك، وقعت المملكة مع السودان برنامجاً لاستغلال الثروات المعدنية بحوض «أطلانتس 2» في البحر الأحمر، ويحتوي معادن تصل عائداتها الى 20 بليون دولار، وقدرت الهيئة العامة للبحوث الجيولوجية في الخرطوم الثروات في المنطقة المشتركة بين البلدين بنحو 47 طناً من الذهب، ومليوني طن من الزنك، و500 ألف طن من النحاس، و3 آلاف طن من المنغنيز، وكمية مماثلة من الفضة.

ويبلغ عدد الشركات العاملة بالذهب في السودان 349، منها 149 شركة امتياز، وارتفع العدد أخيراً الى 434 شركة بعد دخول شركات سعودية وإماراتية وقطرية في منظومة الاستثمارات العالمية للذهب.

وتستعد روسيا للمشاركة في مشروع البحر الأحمر، خصوصاً أنها وقعت مع السودان خمسة اتفاقات في قطاعات المعادن والزراعة والصحة والنفط والغاز، وهي في صدد إنشاء بنك روسي في السودان بعد تأسيس مجلـس أعمال مشترك، وتأمل بتنفيذ مشاريع تساهم في رفع قيمة التبادل التجاري بينهما الى 20 بليون دولار في السنوات الست المقبلة، وقد بحثت لجنة وزارية سودانية وروسية التعاون في تصنيع الذهب وإنتاجه.

ووقعت الصين أيضاً في مطلع الشهر، والتي بلغت استثماراتها في السودان نحو 11 بليون دولار، اتفاقات تشمل 24 مشروعاً تنفذها شركات صينية، وإنشاء منطقة تجارية حرة على ساحل البحر الأحمر، في إطار الشراكة الاستراتيجية والتعاون المشترك بين البلدين، علماً أن الديون الصينية على السودان تتجاوز 4 بلايين دولار.

وفي خضم كل هذه التطورات الإيجابية، دعا صندوق النقد الدولي الحكومة السودانية الى تشديد السياسة النقدية لكبح جماح التضخم البالغ نحو 18 في المئة، ليصبح دون 10 في المئة، مؤكداً أن ذلك يتطلب الالتزام المستمر بالقيود على قروض البنك المركزي. وشجع الصندوق السلطات السودانية على تسريع الإصلاحات واستدامتها لتحقيق الاستقرار الكلي ومعالجة نقاط الضعف وتعزيز النمو الشامل. لكن كيف يمكن خفض التضخم مع زيادة حادة في أسعار السلع الاستهلاكية والخدمات ورفع الدعم في العام المقبل، واتساع الفجوة بين الأجور والأسعار؟

* كاتب متخصص بالشؤون الاقتصادية

This article has been published at alhayat.com. Unauthorised replication is not allowed.

للكاتب Tags not available