|   

«خبر اختطاف» لغابرييل غارسيا ماركيز ... عالم الحجز

النسخة: الورقية - دولي
آخر تحديث: هويدا صالح 

هي رواية مثّلت نقلة نوعية في أدب غابرييل غارسيا ماركيز، من الواقعية السحرية والعالم الفانتازي الخالص، وأسطرة الأماكن والأحداث، إلى الاعتماد على الواقع، والاتكاء على اللغة الصحافية التقريرية في الكتابة. إنها رواية «خبر اختطاف» التي صدرت أخيراً عن دار «آفاق» في القاهرة بترجمة سليمان العطار. عالم جديد يلامس فيه ماركيز مناطق خطرة في بيئته المحلية، على خلفية قرار أرادت حكومة كولومبيا أن تصدره، وهو تسليم تجار مخدرات كبار إلى دول أجنبية لمحاكمتهم، في ما سُمي بالـ «المُعَرَّضين للتسليم».

هذا القرار يرتبط بتوقيع كولومبيا معاهدة تقضي بتسليم زعماء المخدرات المطلوبين إلى الولايات المتحدة الأميركية لتحاكمهم، وترتَّبت على ذلك سلسلة عمليات خطف بهدف التأثير في الحكومة لتتراجع عن التزامها تلك المعاهدة. يبني ماركيز روايته على حادثة حقيقية، تمثلت في انتشار خبر اختطاف زوجة صديق له. عكف الكاتب لثلاث سنوات على استقصاء وقائع تلك الحادثة وغيرها، ومن ثم امتلك، وفق المترجم، المفتاح السحري لفتح ذاكرة الألم لدى الكثير من الأشخاص، لا ليكتب قصة امرأة واحدة مخطوفة فحسب، بل ليسجل عمليات اختطاف عشرة آخرين. اللغة الصحافية، مكَّنت الكاتب من رصد كادرات سينمائية لهؤلاء المخطوفين، وحراسهم، وهم في حالات من الضعف الإنساني الذي يستحق الأسى أحياناً والتعاطف أحياناً أخرى. في هذه الرواية يطرح صاحب «مئة عام من العزلة» أسئلة عن مدى مشروعية فعل الخطف، ومدى قدرة المخطوفين على التحمل والمقاومة. إنها حلقات متصلة من العذابات اليومية كي يتمكن هؤلاء من المحافظة على الحياة. إنها تفاصيل العذاب اليومي الذي يقيد أبسط حاجات الإنسان، فيصف ماركيز وسائل التحكم في حاجات الرهائن الجسدية، كالاغتسال والنظافة الشخصية والذهاب إلى دورة المياه، لتتحول إلى معاناة يومية.

يبدأ الرهائن سلسلة من عمليات التكيف مع الوضع، في محاولة للتعايش مع شروط الخاطفين، فالرواية ترسم صورة حالكة السواد لإحدى أسوأ الممارسات المرتبطة بالاختطاف، وهي العزل عن العالم الخارجي، ومنع الأخبار المرتبطة بالأهل والأصحاب والمختطفين الآخرين إنْ وجدوا، وإبقاء الرهينة في حالة وحدة تفجر لديها براكين من قلق مجهول، وحالة من توقف الزمان والمكان، وتجميد اللحظة الراهنة في لحظة أبدية. فماذا بعد؟ ما هو مصيرها؟ وماذا حلَّ ببقية الرهائن؟ تتوالد الأسئلة السوداوية، وتتفجر هواجس البقاء في وجه مستقبل مجهول، التصفية أم إطلاق السراح ودفع الفدية، أو الرضوخ لمطالب الخاطفين. تتوالد الأسئلة، مخلفةً توتراً شديداً، ونفساً محطمة من الداخل. سيشعر القارئ بأنه أمام عمل سينمائي غني، بل قد يعود إلى التفاصيل الملهمة مرة تلو مرة ليستزيد منها، لكن المترجم يطرح سؤالاً حول تصنيف العمل، هل هو رواية أم كتاب تاريخ؟ هل هو سيرة غيرية (بيوغرافي) أم كتاب كبير لريبورتاج صحافي؟ ثم يقرر المترجم أن يترك أمر التصنيف للنقاد، فيقول: «هذا الغموض أترك للنقاد أمر تفسيره، وهم أمام رواية كل شخوصها واقعيون، ووقائع حياتهم الفردية صارت بالنص والخيال جمعية. لكن غموض العمل أدى إلى غموض أسلوب اللغة، أو قل بلاغتها، وتلك مشكلة المترجم، الذي يترك لحسه وبديهته إضاءة الغموض، وإدارة اللغة الجديدة التي نقل إليها العمل».

وعلى رغم هذه التساؤلات، إلا أن من يقرأ العمل يكتشف أنه أمام بنية رواية متكاملة، اللغة فيها تبدو حيادية، لكنها مورِّطة القارئ كي يتعاطف مع هذه الأرواح المُعَذَّبة والمأزومة. بل تتخطى عذابات المخطوفين في الرواية زمن الاختطاف إلى المرحلة التالية للاختطاف وإطلاق سراحهم، وأولى الصدمات وأبسطها بعد تجربة الاختطاف الطويلة هي التعرف إلى صورهم في المرآة، والانتباه بما يشبه الصدمة لانعكاسات تجربة التحول الجسدي والنفسي خلال الاختطاف وانعكاسها على شكل خارجي. إن عذابات المخطوفين السابقين تتواصل بعد إطلاق سراحهم، ليصيروا سجناء هواجسهم ومخاوفهم، فقد يستيقظ أحدهم على صوت السلسلة الحديد التي كانت تقيده، وقد تفزع امرأة روائح البول والعطن التي كانت تخنقها في هذه المساحة الصغيرة التي قيدت إليها لبضعة شهور.

تجاوز ماركيز في روايته هذه مسلَّمة الإدانة المسبقة، ليغوص في معاناة الخاطفين كضحايا للنظام السياسي والاجتماعي، والتي لا تختلف عن معاناة المخطوفين إلا في تبادل الأدوار. فهم كالمخطوفين ضحايا نظام فاسد وسلطة مطلقة لعصابات المخدرات التي تجبرهم على إلغاء إنسانيتهم وإنسانية رهائنهم بتبرير فعل الاختطاف كفعل مقدس، وبالتالي تبرير كل التصرفات الوحشية وغير الإنسانية بحق رهائنهم. هم صنائع سلطة فاسدة، ومن ثم يكتسب الاختطاف دلالة الواجب النبيل. قضية تسمو على فعل الاختطاف، فتُعلّق مشاعر الذنب تجاه الرهائن. القضية في نظر الخاطفين لا تحمل طابعاً شخصياً تجاه الرهائن، بل هي خدمة واجبة لزعيم عصابة المخدرات وهي هدف سامٍ. مع المضي قدماً في هذه الرواية تتفتح لنا أجواء المخفي من عالم الاختطاف بالغوص في ثنائية العلاقة بين الخاطفين والمختطفين، فتزول الحواجز تدريجاً، وبطول المدة تنشأ علاقات دافئة تتجاوز ثنائية الخاطف والمخطوف إلى البعد الإنساني لهذه العلاقة الفريدة. إذ تنشأ حالة من التواطؤ الحميم مع الرهائن وتنطلق الحوارات الساخنة والمرحة وحتى الاحتفالات الدينية، ويبدو الخاطفون في بعض المواقف أكثر بؤساً من المختطفين. وتتجلى موهبة ماركيز وعمق روايته في أحاديث الخاطفين مع المخطوفين في حوارات تتجاوز المألوف، فهم يشكون من معاناتهم، ويسردون تفاصيل حياة من لقي حتفه من أصحابهم نتيجة خيانات الشرطة وعمليات التصفية في حروب العصابات، فعلى رغم التنكر خلف أسماء وأقنعة وهمية، إلا أن طول الأيام يخرق المستور، فتتهاوى الأقنعة، ويتابع الجميع، من خلف غرف سرية في بيوت عادية. الخاطفون والمخطوفون جنباً إلى جنب مع أخبار عمليات الاختطاف وبيانات الحكومة وبكائيات الأهل والأصحاب. الأخبار تعني للخاطفين أن للفعل صدى، أما للمخطوفين، فتعني بقاء الأمل في الحياة، فلا تزال الذاكرة الجماعية تذكرهم كأحياء لا كأموات. وعلى رغم زوال الحواجز، فإن الأسوار سرعان ما ترتفع عند إصدار أوامر تغيير أماكن الاحتجاز أو التصفية لتتشكل حالة فريدة هي نواح سري من الخاطفين على الرهينة عند تنفيذ أوامر الإعدام.

This article has been published at alhayat.com. Unauthorised replication is not allowed.


 
 

قتلى وجرحى بعد خروج قطار عن مساره في اليونان  |  بتوقيت غرينتشهروب 22 شخصاً من حراسة عسكرية في هندوراس  |  بتوقيت غرينتشانطلاق الدورة 12 من ليالي المسرح الحر في الأردن  |  بتوقيت غرينتشسقوط الشركات والحكومات... والنجاة بـ «التشفير»  |  بتوقيت غرينتشخمسة قتلى بتحطم طائرة خفيفة في البوسنة  |  بتوقيت غرينتشاكتشاف مقبرة في المنيا من العصر اليوناني الروماني  |  بتوقيت غرينتشكيف نتجنب تدمير العالم الرائع الذي نعيش فيه؟  |  بتوقيت غرينتشتكريم فنانين عرب وأجانب في الموريكس دور  |  بتوقيت غرينتشالإعلام المصري ... واليوم المشهود  |  بتوقيت غرينتشالكشف عن جبانة أثرية تعود للعصر اليوناني - الروماني في مصر  |  بتوقيت غرينتش