|   

بين جورج حنين وأندريه بريتون

أندريه بريتون وجورج حنين
النسخة: الورقية - دولي
آخر تحديث: سمـير غريـب 

جورج حنين (1914-1973) هو مؤسس الحركة السريالية في مصر ومحركها، وأندريه بريتون (1896-1966) مؤسس الحركة السريالية العالمية ومحركها. التقيا للمرة الأولى عام 1934. لعب جورج حنين دوراً مهماً في الحركة السريالية في فرنسا، فضلاً عن دوره الرائد في مصر. تبادل عدداً ضخماً من الرسائل مع بريتون وغيره والتي لم تجمع وأتمنى أن يتحقق يوماً لتكتمل صورة هذا الشهاب الذي مر على القرن العشرين فشارك في تغيير إبداعه جذرياً. لكنها المرة الأولى التي تحدث فيها حنين عن بريتون وعلاقته به في هذه المقالة «مع أندريه بريتون» نشرتها المجلة الأدبية الفرنسية Le Magazine Litteraire عدد آذار (مارس) 1968 بعد وفاة بريتون بعامين وقبل وفاته هو بخمسة أعوام. هنا ترجمة كاملة وللمرة الأولى لنص المقالة وما بين القوسين الكبيرين من عندي للتوضيح:

«في عمر العشرين، كنت أقل خجلاً بكثير مما أنا عليه الآن. اعتبرت أن هذا هو العمر المناسب للذهاب للدق على باب أندريه بريتون الذي كتبت إليه بعض الخطابات بأسلوب سبارتاكوسي جميل، لكنني لم أكن أعرف غير أعماله وعنوانه. كان وحيداً بجوار مهد ابنته «أوب Aube». كانت زوجته قد غادرته لتوها، وتركته يصارع المشاكل المنزلية التي سببت له إحراجاً طبيعياً في الأعمال الداخلية. كان ذلك غرق سفينة على جزيرة مهجورة، وشعرت بالانزعاج الشديد للتحدث معه في موضوعات حضرت قائمة بها في ذهني لكنها لم تكن لها أية علاقة بضرورة تغيير حفاضات الطفلة. قال لي: «تعال إلى المقهى ستقابل أعضاء المجموعة». وفهمت، في تلك اللحظة، أهمية كلمة «مقهى»، مكاناً للتواصل والوهم.

على مقهى ميدان بلانش، الدافئة بين مقاهيه، اتخذ بريتون وجهاً. نحت له رأساً وكان منبراً لا يستطيع أن يمارس منه السلطة إلا على الأحلام وليس على الكائنات النهارية. كان يشعر أفضل من أي شخص بأن هناك جزءاً متاحاً في حياة الناس، فجوة لم يتعامل معها المجتمع بعد ورفعها من العدوانية الفاخرة للشعر. عندما طلب كأسه الكبير من النبيذ، كان يستطيع، بصوت الدوج (رئيس القضاة في جمهوريتي البندقية وجنوى) أن يطلب أضواء الشمال أو غابة متحجرة: ويجدها الجرسون له. متاح بنفسه عبر كل ما يرفضه، لعب بريتون بيأس لتجميل العالم. الثورة، بالنسبة له، لم تكن حزباً بل رهاناً. سيدة شقت الحشد بظهورها باحثة عن شخص ذي نظرة ضائعة، أصبحت شبحاً، جنية، ميلوزين خاصة لمرآة ومرئية لعين مجنونة.

ضد تأخر الكلمات العضال، دائماً وراءنا، ألح على الصدفة. لم يكن يشك في أن هذه الخطوة البدهية ستكون قريباً واحدة من العلم الجديد الذي، في النسيان الطوعي لقواعد العشية، اتجه بمحبة نحو الاستثناء المزعج. بينما، بأفضل ما في نفسه وعلى الرغم من تصريحاته الجازمة عن الحداثة، لم يكن بريتون رجل هذا العصر. كانت الأساطير الفلسفية الحالية عن العزلة وعدم القدرة على التواصل بالنسبة له غريبة تماماً. لم يكن يعتقد أن الكائنات كانت منفصلة: لم يكن على كل حال بسبب التعدد البابلي للغات لكن بالأحرى بسبب الثبات الزائف للغة. خطأ التحويل الذي جعل الحضارة الغربية تخرج عن قضبانها، تعلمت في هذه اللحظة أن بريتون حدد ذلك في قلب العصر الوسيط، يعزوه إلى «صراع المسلمات» الشهير وإلى نتائجه المؤسفة (يشير حنين هنا إلى الخلاف بين علماء المنطق حول المسلمات والذي استمر بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر).

ما هو مؤكد في شخصية أندريه بريتون ليس إلا حصة الطفولة (يعني الجانب الطفولي في شخصيته وقد استخدم جورج تعبير حصة وهو التعبير ذاته الذي أطلقه على دار النشر التي أسسها في القاهرة: حصة الرمل): طفولة شاعرية غير عادية تحرض ضد الكلام الشائع حيث لا تلمح إلا مدرسة منفى لاإنساني. الخطاب، النقاش، كانا بالنسبة له أخلاق الاكتشاف: بمعنى متعة. مثلما كان شارل فورييه يعجبه الانتظار كل يوم في ساعة محددة، على دكة في ميدان كليشي، ليأتيه شخص مجهول يعرض عليه تنظيم قطاف الكرز، لم يكن بريتون يسأم من انتظار أن تعرض عليه كلمات هاربة من أقفاصها. معه كنا مأخوذين باستمرار بفضول غير متوقع ونتقاسم فتات اكتشافاته بيننا كما اللصوص يتقاسمون غنائم الليل.

أتذكر برقية أرسلها لنا بريتون ليستدعينا فوراً إلى منزله في 42 شارع فونتين لمناقشة موضوع مهم ولكنه غير محدد. ذهبت برفقة صديقي نيكولا كالاس – اسمه بالكامل كلاماريس – ولا نصفه في الجماعة إلا بـ «النسر الصغير» لأنه كان لديه نوع هش من الأناقة الثورية جعلت منه الوريث الافتراضي للتراث السريالي. كان هذا عام 1938: بعد بضعة أشهر نشر كالاس، عند دار دينويل، مزيجاً من الأفكار القابلة للاشتعال بقوة تحت عنوان «حرائق». سألني، وهو أعلم مني، بين محطتي مترو: «هل قرأت الكتاب الأخير لألفونس دى شاتوبريان، حزمة القوات La Gerbe des forces». لم أكن قد قرأته، أكان حقاً؟ نعم لأن بريتون كان منفعلاً جداً بهذا العمل.

في مكتبه حيث شعر الواحد بأنه مراقب من لوحة عمياء لـدى كيريكو أو ترجمه حجارة تانجي، كان هناك بريتون آخر غير بريتون المقهى: خيميائي مفتون بالومضات غير المؤكدة للتاريخ، كاهن بأصابع الضباب. وهذا الكاهن تلقى من «حزمة القوات» تعويذة ما قبل المسيحية استجابت لجانب من قلبه. ذلك لأن اعتبار المؤلف متهماً بالفاشية لم يكن كافياً لاستبعاده من البداية أو أن يملى عليه واحد من تلك الاتهامات المبدئية التي كانت تعلن بسهولة في ذلك الوقت والتي علاوة على ذلك كانت تمارس دائماً. (يشير جورج حنين هنا إلى تاريخ الروائي الفرنسي ألفونس دى شاتوبريان 1877-1951 والذي تعاون مع الاحتلال الألماني لفرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية).

أحببت كثيراً في هذا المساء بريتون الذي تأخذه حساسيته لدرجة المخاطرة بأيديولوجيته السياسية، بريتون الذي تعلو عنده علاقة الإنسان بالطبيعة في القيمة وفي الواقع على كل علاقات الإنسان مع المجتمع. عندما نقرر – كانت هذه حالته– أن المسيحية كانت كارثة تاريخية خرجنا منها مشوهين، نبحث عن قارته أتلانتس في المبرر الهيلليني أو في أساطير الشمال. كانت روح أندريه بريتون مغلفة تماماً بألمانية مصنوعة من مناظر طبيعية وسحر ربما أكثر من موقف واقتراحات مثقفين. كانت مقاومة أندريه بريتون كبيرة جداً لأقل قدر من التواطؤ المسيحي: وقد ألهمته بمخزون صاف في ما يتعلق بفيكتور سيرج الذي كنت أراه كثيراً بانتظام وقلت له أنه يستحق. بالنسبة لفيكتور سيرج (1870 – 1947 كاتب ثوري روسي فوضوي أصلاً)، فإن مشاركته في مجلة «إسبري Esprit»– خزانة إيمانويل مونيه الكنسية الشخصية – وضعته في تصنيف الناس أصحاب الحلول الوسط المتقدمة (إيمانويل مونيه 1905 – 1950 فيلسوف فرنسي ولاهوتي وكاتب، كان المرشد الروحي لحركة الشخصانية الفرنسية أسس وأدار مجلة إسبري لتكون لسان حال هذه الحركة). بعد ذلك، نحو عام 1947، أعطى بريتون إشارات كثيرة إلى محبة ميشيل كاروج: لكن هذا كانت لديه فكرة مزعجة هي نشر كتاب ادعى فيه الكشف عن دوافع أو آثار مسيحية في التجربة السريالية. أزمة الغضب التي نتجت أخذت أبعاداً ذات طقس عربيدي: لو أمكن إحراق المجدف كاروج حياً في ميدان في باريس، لا شك في أنه كان سيتحقق في لحظة.

بين إخفاقات لا حصر لها، كان لبريتون قبل حرب 1939 بقليل الحظ السعيد في تحقيق زيارته الأولى للمكسيك. أثر لقاء ليون تروتسكي بلا شك في حياته وميز فترة فيها، لكن بلا شك أقل مما كنا نعتقد عند عودته. احترم في تروتسكي بعمق نسيج متمرد نقي الذكاء، قدرته على مواجهة اتحاد كل بوليس العالم، أخيراً غياب أي حكم محدد منه نحو الإبداع الأدبي والفني الذي، آتيا من رأس ماركسي، بدا بالكاد ممكناً. كانت لدى تروتسكي أيضاً سخرية قاسية كالطاعون العظيم، وكان بريتون كالمضطرب من أداء هذا الرجل الذي كان يقف بالفعل على الجانب الآخر للحياة، مسلحاً بمسدس وحيد من جدله.

أكثر من مرة حثثت بريتون على ضرورة أن تخضع السريالية لعلاج سري. لأن خاصية مجتمع الاستهلاك الحديث لا تتسامح مع الجرائم، لكن تستعيدها تحت شكل دمى تافهة، إثارة تجارية، تسلية، من ثم، لا تسمح له إلا بمعارضة نظم مغلقة، انضباط ارستقراطي للتفكير يتخلى مقدماً عن غرور كل خصام خارجي. عندما تتزين الظلامية بالأعلام وتشرع في الخارج، فلن يعود هناك ضوء إلا ود وغيرة فضائه الطاهر.

ربما كان بريتون يسعى لكسوف السريالية. ليس بالقدر الكاف لإنجازه. كان يعتقد حتى النهاية في فضيلة النداء. كان يعتقد في الزائر السليم، في بلور ندى الصباح، في عدوى البراءة.»

This article has been published at alhayat.com. Unauthorised replication is not allowed.


 
 
   

كرة القدم والمصارعة ترتبطان بالتهاب مفصل الركبة  |  بتوقيت غرينتشتعليق مشروعات البناء في جنوب الصين بعد سقوط رافعة  |  بتوقيت غرينتشكبار مذيعات «بي بي سي» يدعون الإدارة إلى سد الفجوة  |  بتوقيت غرينتش«ووندر وومان» تسرق الأضواء من الأبطال الخارقين  |  بتوقيت غرينتشمخرج كندي يقدم الجزء الثاني من فيلم «بليد رانر» الشهير  |  بتوقيت غرينتشنيوزيلندا تستعد لمزيد من الأمطار بعد عواصف عاتية  |  بتوقيت غرينتشهونغ كونغ ترفع حالة التأهب مع اقتراب الإعصار «روك»  |  بتوقيت غرينتشإيطاليا تتجه لترشيد استهلاك المياه في العاصمة  |  بتوقيت غرينتشولدا ديانا استعجلا إنهاء الاتصال الأخير معها: لو علمنا بما سيحدث لما تضجرنا  |  بتوقيت غرينتش«زندا» ابن الأسد «سيسيل» يلقى مصير والده  |  بتوقيت غرينتش