يتمدّد مفهوم "الشارع" خارجاً من حبسه اللغويّ داخل المعاجم العربية التي عرّفتهُ على أنّه "الطريق أو الدرب". فدلالاته الواسعة تعود للتشكّل إثر تصويب معناه الماديّ الضيق، ليصير أكثر صِلة بالبنى الاجتماعية خلال علاقاتها الاقتصادية السياسية المتحركة. ولعل مدلولات الفعل والاتّساع تظلّ هي الأقرب إلى الرمز اللغوي لمصطلح "الشارع"، وهو أيضاً مصطلح إشكالي في تعميم مضامينه التي ترتبط بالمتغيّر الزمني وبالتراكم المعرفيّ للمجتمع.. حتى إن التعريف اللغوي الصارم هنا يعكس بشكلٍ ما نمط السلطة وعقليّتها في إدارة الشأن العام، إذ تبدلّ نسق الشارع الجمالي ومكوناته المادية في سوريا تبعاً لمنطق أنظمة الحكم التي تعاقبت على البلاد. وكذلك تغيّر المعنى المرن للشارع في دلالاته الاجتماعية مع تغيّر تلك الأنظمة، وحتى داخل نظام الحكم الواحد. ما يجعل هذه الديناميّة تفرج عن مساحة إضافية لفهم التموضعات العديدة التي خاضها الشارع السوري منذ الاستقلال وصولاً إلى الحرب التي تعيشها البلاد منذ سنوات.
الشارع قبل النظام الشمولي
غيّرت الكهرباء ومعها عربات "الترام" ملامح شوارع دمشق بصورةٍ جديّة منذ عام 1935، حين نقلتها من نسقٍ مادي تسوده عربات تجرّها الخيول إلى عربات تستخدم الكهرباء في حركتها. هذا التجرّؤ التقني على
البنية المادية السائدة للشارع كان يضمر صعودَ قوى اجتماعية جديدة إلى مراكز السلطة، عادت وقادت "الشارع" بدلالاته البشرية خلال الإضراب الستيني الشهير عام 1936، الذي رصدت مضامينه مواقف تراكميّةً حادة من النظام القائم آنذاك على خلفية إبرامه معاهدة تعاون مع الانتداب الفرنسي عام 1933. ثم أرغمت احتجاجات الشارع التي تلت تعديل قانون الأحوال الشخصية وضم لواء الاسكندرون إلى تركيا عام 1939، حكومة "جميل مردم" على الاستقالة. وابتداءً من منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، أخذت مكونات الشارع السوري تنتظم في أنساق موازية لأنساق القوى التقليديّة القائمة منذ تأسيس "الكتلة الوطنيّة"، وتلك الجديدة الصاعدة التي تتوق لمزيدٍ من المكاسب السلطويّة. حدث هذا في المراكز المدنية للبلاد، بعيداً من الأرياف البائسة والطبقات الفقيرة المهمّشة التي لم تستقطبها أيّ من القوى السياسية السائدة بمقدار ما استقطبها حزب البعث. وعلى الرغم من صعود طبقة العسكر في سوريا بعد عام 1949 ورغبتها بمزيد من السلطة، فقد ظلّت آثارها القمعيّة على الشارع محدودة، وظلّ الشارع قادراً على الحراك والتنفس مراراً كما في التظاهرات التي اتسعت خلال 1953 ضد الحكم العسكري القمعي لأديب الشيشكلي، من دون الاكتراث بإعلان حالة الطوارئ وتدخل الجيش لقمع الاحتجاجات، وكانت حركة الشارع تترجم حينها مقاطعة أغلب القوى السياسية لانتخابات البرلمان التي جرت في عام 1952، والتي لم تتعدَّ فيها نسبة الاقتراع أكثر من 16 في المئة بحسب الأرقام المتوفّرة من تلك الفترة.
ظلّ الشارع نسقاً مادّياً وبشرياً مشتقاً من اتساع المدينة وفاعليّتها. المدينة تشتغل بالسياسة والريف النائي يتلقّف نتائج تلك السياسة ويطمرها بعناية في زواريبه الضيقة. كان الشارع ابن المدنية المنارة بالكهرباء، وملعب القوى السياسية التقليدية المفصّلة على مقاسين اثنين: "حزب الشعب" في حلب وحمص بعلاقاته الحميمة مع التاج الهاشمي في العراق والأردن، و "الحزب الوطني" في دمشق المتودد للملكيّة السعوديّة والمصريّة قبل إطاحة الملك فاروق، وحتى بعد قيام النظام الجمهوريّ هناك.
لكنّ عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي أفسحا في الطريق أمام المفردات الاشتراكيّة التي طرقت باب الشارع المدني بشعارات كبرى ودخلته، وغزت معاناة الريف السوري المترامي الأطراف، وطوّقت بؤسه الطويل بأحلامها ورهاناتها على "ثورة تزيل الطبقة الرجعية"، وعلى تمكين مفاعيل العدالة الاجتماعية. ثم عكست مرآة الشارع كلّ ذلك بالتظاهرات المشهودة التي ألهبت دمشق في شتاء 1962، احتجاجاً على سياسة حكومة "معروف الدواليبي" المغالية في الليبراليّة التي أبطلت قرارات تأميم المصارف، وأدخلت تعديلات مقلقة على قانون الإصلاح الزراعي المعمول به خلال سنوات الوحدة مع مصر لإفراغه من جدواه، باعتبار أن 75 في المئة من قوة العمل حينها كانت تشتغل في قطاع الزراعة، ونحو 72 في المئة من مساحة الأراضي الزراعية الخصبة كانت ملكيةً خاصة لأرستقراطية متوارَثة منذ نظام الحكم العثماني.
خلال نظام البعث الحالي
أخفى حزب البعث مذ جاء إلى السلطة في آذار/ مارس 1963 الحياة السياسيّة داخل جيبٍ سماه "قانون الطوارئ". ثم اعتقل الحريات العامة بحجة الدفاع عن مكاسب الثورة التي قام بها. أبقى على صوته فقط، فيما ألغى أصوات الآخرين وباركَ عطالتها، فأغلق نحو 18 صحيفة يوميّة كانت تصدر في دمشق، و11 صحيفة يوميّة كانت تصدر في حلب، عدا عن المجلات والدوريات الأسبوعية والشهرية الأخرى التي أوقف إصدارها. وخلال نصف قرن من حياة سوريا، تمكّن النظام الشمولي من تفكيك مكونات الشارع الحيّة ثم محاها، واستطاعَ تحويله إلى شارع من لونٍ واحد، تقبض عليه الأجهزة الأمنيّة التي صارت تدريجياً صاحبة صلاحيات شبه مطلقة في إدارة الشأن العام. فاختفت مكوّنات الحراك تماماً بعد دستور 1973، وصار الشارع على موعد مع مسيرات سنويّة حاشدة تجوب المدن السوريّة في آذار/ مارس (عيد الثورة)، وفي نيسان/ إبريل (عيد تأسيس حزب "البعث"، وفي تشرين الثاني/ نوفمبر (عيد الحركة التصحيحية).
تقيس بنية الشارع الحيّة امتداد الطبقة الحاكمة ونوع السلطة التي تمارسها، وتكشف أيضاً عن أشكال القوى الاجتماعيّة الصاعدة، أو التي دحرها الظرف الموضوعي فهبطت فاعليتها
سكت الشارع تماماً، وظل النظام يدفع كلفة بقائه الباهظة والمتمثّلة في تكريس دخولٍ منخفضة، ودعمٍ حكوميّ عالٍ أرهق موازناته العامة، لكنّه كان مناسباً لإيجاد توازنٍ هشّ يقف على حدود الهاوية بين مستويَي الدخل والإنفاق، الذي بدء ينزلق صوبها منذ بداية المشوار الحكومي في رفع الدعم عن أسعار المشتقات النفطيّة ابتداءً من 2008.
لكن النظام القائم، بمكوّناته الأساسية الحزبية والأمنية والعسكرية، الذي بقي وفيّاً لقاعدة الحيطة من التغيير ونبذه، أخذ بالتراجع جزئياً عن ذلك بعدما نمت طبقة جديدة من رجال الأعمال والمستثمرين المحليين، وصارت تبحث عن منافذ جديدة لتوسيع ثرائها عن طريق التزاوج البراغماتي مع مكونات النظام القائم.. فظهرت مجموعة من القوانين والتشريعات منذ عام 2000 تسمح بإنشاء المصارف وشركات التأمين الخاصة وحتى المطبوعات غير السياسية. ولأن هذه السلطة لا تحتاج إلى الشارع بشيء، بقي الشارع غائباً عن السياسة، بقي بلونٍ واحد لم يتغيّر طيلة نصف القرن الماضي. حتى إنّ مكوّنه الشكلي ظل ثابتاً واتساعه المكاني ظلّ معدوماً داخل المدن الكبرى التي انحسرت عن فضائها العمراني المخططات التنظيميّة الجديدة لعقودٍ من الزمن. لكنّ شارعاً آخر أخذ يتشكل تدريجيّاً في محيط مدن مثل دمشق وحلب وحمص، هو الشارع العشوائي، بمكوّناته من البشر القادمين من الأرياف بحثاً عن فرص عيشٍ أفضل في قلب مدنٍ منخورة بآفة الركود. لم تنمُ المدن السورية من حيث المكوّن الجمالي، ولم تحقق تراكماً مادياً منطقياً، بل أنبتت على أطرافها أحزمةً إضافية من الفقراء ظلّت تذكّر بغياب الشارع عن حسابات السلطة القائمة.
شوارع الحرب
يعني الشارع مجازياً عامة الناس، ويعني أيضاً المنتمين إلى دينٍ محدد أو إلى فكرة بعينها، وصار يعني في سوريا بعد حراك آذار/ مارس 2011 اصطفافاً موالياً للنظام أو معارضاً له، ثم صرنا نسمع بـ "الشارع السنّي الثائر"، وبـ "شارع الأقليات الموالي". فالشارع الساكن خلال حكم البعث عاد وانقسم عمودياً بين فكرتي الموالاة والمعارضة. أما المترددون في قبول أحد الاستقطابين الأساسيين فقد صاروا شارعاً رماديّاً بلا نكهة أو صبغة لونيّة واضحة. ثم انحاز الشارعان بالتدريج إلى فكرة السلاح، فظهر "الشارع المسلّح"، وعليه انتصبت الحواجز العسكرية والأمنية والميليشياويّة والإسلاميّة المتطرفة. وهكذا تتداخل المكونّات المنطقيّة للشارع مع مكونات السلطة القائمة في علاقة جدليّة يصعب نفيها. كلاهما يؤثّر في تشكيل ملامح الآخر على نحوٍ وثيق. وتقيس بنية الشارع الحيّة امتداد الطبقة الحاكمة ونوع السلطة التي تمارسها، وتكشف أيضاً عن أشكال القوى الاجتماعيّة الصاعدة، أو التي دحرها الظرف الموضوعي فهبطت فاعليتها.
لقد تقلّص حراك الشارع الحيّ في سوريا سريعاً خلال الأعوام الماضية، وكأنه اختلس إطلالةً خاطفة على الوجود ثم انكمش واجماً في مكانه، بعدما صمتت التظاهرات المناوئة للنظام الحاكم، والأخرى الموالية له، حيث فرّ المعارضون بجلودهم إلى الخارج، ومن هناك استطاعوا أن يمتدحوا الثورة مجدداً، وينظّروا بانتصارها على شارعهم الذي لم يعد موجوداً، فيما أغرقت السلطة القائمة البلاد بطوفانٍ من العزلة والخوف والبرد والعتمة والجوع والرذيلة، وبقيت تتحدّث عن مؤامرةٍ كونية أصابتها، وكأنها وعكة صحيّة عابرة، واستمرّت تنظّر بضرورة الصمود على شارعها الذي لم يعد موجوداً أيضاً.