من المرجَّح أن يطبّق ترامب استراتيجية قائمة على "انعزالية/ مافياوية أكبر، وعلى حماية اقتصادية أقوى"، بعدما فشل أوباما بتحسين الميزان التجاري والدين العام الأميركي. مهمّة ترامب هذه ليست أسهل من مهمة سابقيه. كان على نيكسون إسقاط بريتون وودز وعلى ريغان سحب الادخار العالمي للاستثمار في الدفاع الأميركي (حرب النجوم)، وكان على كلينتون تعميق الليبرالية والعولمة، أما أوباما فانتُخب لحل الأزمة المالية وضبط الشارع.

تُلخَّص مهمة ترامب بتعديل ميزان القوى الاقتصادي مع الدول الدائنة ذات الفائض التجاري الكبير مع الولايات المتحدة، وهذا من خلال الحماية الاقتصادية والابتزاز العسكري.
وبدلاً من محاولة تحليل العناوين الكبرى لاستراتيجية ترامب، ربما يجب التعامل مع الإدارة الجديدة بنفس أسلوب خطاب ترامب. فخطاب هذا الأخير في الحملة لم يكن عن سياسات بل عن دول وشركات وكيفية التعامل معها.
الدول الدائنة ذات الفائض التجاري الكبير مع الولايات المتحدة هي خمس: الصين، اليابان، ألمانيا، الخليج، وكوريا الجنوبية. هذه الدول تحمل 90 في المئة من الفائض التجاري مع الولايات المتحدة ونفس النسبة تقريباً من الدين العام الخارجي.
باستثناء الصين، فالدول الأربع الباقية مرهونة أمنياً بالولايات المتحدة، من خلال قوات عسكرية أميركية موجودة مباشرة على أراضيها: ثلاث منها هي أكبر دول صناعية في العالم، والرابعة هي منطقة نفطية.

ماذا يريد ترامب من:
1- منطقة الخليج
دول الخليج تحمل نحو 800 مليار دولار من الدين الأميركي السيادي، ولديها محافظ كبيرة مستثمَرة في الشركات الأميركية.
ترامب يريد بكلّ بساطة أن يمتصّ قسماً من هذا الفائض المالي قبل أن يعود ويرتفع سعر النفط بعد 5 أو 6 سنوات، تماماً كما فعل جورج بوش الأب مع الكويت بعد أن طرد صدام منها، إذ دفع "الصندوق الكويتي للاستثمار" في عام 1991 كل الفائض لديه ككلفة حرب للإدارة الأميركية (نحو 100 مليار دولار). وباسم محاربة داعش وحماية الخليج من إيران، سيضطر هذا الأخير أن يشتري الحماية الأميركية (مقابل أتعاب) مباشِرة، ربما يصل ثمنها إلى بضع مئات من مليارات الدولارات. وفي الوقت نفسه، ستحاول هذه الإدارة أن تبقي سعر النفط منخفضاً من خلال مساعدة إنتاج الغاز الصخري في أميركا.
2- الدول الصناعية
أما بالنسبة للدول ذات الفائض المالي والتجاري والمرهونة عسكرياً وسياسياً للولايات المتحدة، فيتم التعامل معها على خطين: أولاً، تأمين الحماية العسكرية "مقابل أتعاب" وثانياً، يفرض عليهم استيراد بعض البضاعة الأميركية.. ما سيؤدي إلى تخفيف العجز في الميزان التجاري وتخفيف ميزانية الدفاع الأميركية.
3- الصين
تبقى طبعاً المشكلة الكبرى في هذه الاستراتيجية هي كيفية ليّ ذراع الصين التي تملك نحو 3 تريليون دولار، ما يقرب من نصفها مستثمر في سندات الخزينة الأميركية.
فبالنسبة للفائض التجاري، ستهاجم إدارة ترامب الصين رسمياً متهمة إياها بالتلاعب بالعملة الصينية (يوان)، وستهدد الصين برفع الضرائب الجمركية، معتمدة على أن الصين ستتضرّر أكثر من الولايات المتحدة في أي حرب اقتصادية، إذ إن الصين تصدر أربعة أضعاف ما تستورده من أميركا.
إلا أن أميركا لن تستطيع أن تعوّض عن الاستيراد من الصين بسرعة، لذلك فتحسين الميزان التجاري سيأخذ الكثير من الوقت، ومن غير المستبعد ألا يلغي ترامب، كما وعد، الاتفاق العابر للباسيفيكي نهائياً، بل سيسعى لإعادة تركيبه مع بعض التعديلات بعد مفاوضات ثنائية مباشرة مع دول المحيط الهادي، محاولا أن يقوي الهند على حساب الصين.
وفي الوقت نفسه، ستطلب إدارة ترامب من الصين أن تستثمر قسماً من الفائض المالي لديها في قطاعات صناعية في الولايات المتحدة، كما فعلت إدارة كلينتون مع اليابان في التسعينيات من القرن الفائت، إذ اضطر اليابان عندئذ إلى الاستثمار في قطاعات السيارات والعقارات والموسيقى..
4- الشركات الأميركية الكبرى
إضافة إلى مهاجمة ترامب للدول المذكورة في خطابه السياسي بهدف الابتزاز المالي/ التجاري، فقد أدلى بجملة غريبة من نوعها، ولا يُذكر لها مثيل، فهاجم أهم شركات تكنولوجية أميركية (فايسبوك، أبل، أمازون..)، والهدف غير المعلَن لذلك هو أن يفرض على تلك الشركات جلب أموالها من الخارج إلى داخل الولايات المتحدة (2.4 تريليون دولار)، إما من خلال قوانين ملزمة أو من خلال خفض الضرائب على هذه الأموال، أو حتى ربما الطلب منها شراء سندات الخزينة الجديدة لتمويل المشاريع التحتية الضخمة التي وعد بها.

خلاصة

اتفاقات ريغان/ تاتشر أدّت إلى نشوء العولمة الليبرالية التي سمحت لأميركا بامتصاص الرساميل المدَّخرة في العالم، إذ موّلت كلّ دول العالم عجز الميزانيات التجارية والحكومية الأميركية لأكثر من 30 عاماً. وهدف اتفاقات ترامب/ ماي (رئيسة وزراء بريطانيا) الآتية هو إعادة تعديل ميزان القوى الاقتصادي بين أميركا وباقي العالم، بعد أن تدهور لمصلحة الدول الدائنة، وهذا من خلال فرملة العولمة الليبرالية لمصلحة القومية الحمائية.. في هذا الاطار الجديد توجد دولة واحدة في المنطقة قد تستفيد من مجيء ترامب، هي مصر.. التي ربما قد تُنعِش القومية العربية التي اختفت مع العولمة الليبرالية!