آراء

انتفاضات فردية لتحريك المجموع

1753227981-660x330

فلسطين المحتلة – قدس الإخبارية: مع الذكرى الأولى للهبّة الفلسطينية العام الفائت، في أكتوبر/تشرين الأول 2015، بات ضروريا وضع كشف حساب لتلك الانتفاضة، والأهم رؤية الواقع اليومي للفلسطينيين في مواجهة الاحتلال، كما ظهر ويظهر من تلك الهبّة، خصوصاً من حيث أساليب النضال وأطره التي برزت حينها، وكيف أثرت وتؤثر في المشهد الراهن.

لقد بدت تلك الهبّة/الانتفاضة نوعاً من التمرد على الاحتلال وعلى قيود الجغرافيا والاقتصاد والبيروقراطية التي أوجدها نشوء السلطة الفلسطينية، ومن ثم تمرداً على الواقع الفصائلي بما فيه من انقسام، ورفضاً لمقولات الحياة والتنمية تحت الاحتلال، واستغلالا لعصر مجتمع الشبكات والتكنولوجيا.

جدل التسمية

ثار جدل كبير العام الفائت، ولا يزال هناك انقسام واضح، في استخدام واحد من مصطلحين لتسمية الحدث، الأول هو “هبّة” والثاني “انتفاضة”. والواقع أنه من الناحيتين اللغوية والتاريخية، لا يمكن التمييز بين المفردتين. فعلى سبيل المثال، شهد العام 1929 ما سميت في كثير من الأدبيات بهبّة البراق، في حين أسمته أدبيات أخرى باسم ثورة البراق. استشهد في تلك الهبّة/الثورة نحو 116 فلسطينيا وقتل 133 إسرائيليا، ولم يثر تاريخياً جدل أو احتجاج حول تسميتها بالهبّة.

وضمنياً كان المحتجون على تسمية أعمال المقاومة العام الفائت بالهبّة يرون ضمنياً أن هذه التسمية تشير إلى حركة أقل زخماً وقوة مما تسمى انتفاضة. ولعل هذا الجدل هو أحد “إنجازات” هبّة العام الفائت، ففي السياق الفلسطيني، وعلى مدى قرابة مئة عام، أصبح ممكناً الآن القول إنّ لفظ الثورة يعني حالة نضالية شاملة للمجتمع، فيها الكثير من أعمال وتشكيلات المقاومة، وحتى المضمون الاجتماعي والتنظيمي، وتوقف استخدام هذه التسمية تقريباً منذ دخول القيادة الفلسطينية للأراضي المحتلة وتشكيلها السلطة الفلسطينية في العام 1994.

واللفظ الثاني، هو الانتفاضة، التي تشير لعمل شعبي واسع وتلقائي إلى حد كبير، فيه فعل يومي بمبادرات ذاتية، ثم جاءت الآن الهبّة لتشير لعمل أقل اتساعاً من حيث الجغرافيا وأقل امتداداً من الناحية الزمنية، وبالتالي أصبح أمام من يتبنى المقاومة التفكير بين أنماط وأبعاد ثلاثة، للاختيار بينها في لحظة ما، انتظاراً لاختيار نمط آخر في وقت آخر، وللتفكير في كيفية حصوله.

تحدي جغرافيا الـ(أ) و(ب) و(ج)

لقد شكلت خريطة التقاسم في الصلاحيات والسلطات، الناتجة عن اتفاقيات أوسلو، تحديا كبيرا أمام أساليب العمل النضالي الفلسطيني المقاوم، خصوصا للشباب، الذين اعتادوا مواجهة جنود الاحتلال بالحجر والمظاهرات، والذين اعتادوا على التصدي للمستوطنين وهم يتوجهون للبيوت التي يسكنوها والمبنية فوق الأراضي الفلسطينية المصادرة. فبموجب اتفاقيات أوسلو، أصبحت ما تسمى المنطقة (أ) خاضعة للفلسطينيين وقوى الأمن الفلسطينية. والتزم الإسرائيليون بين العامين 1994 و2000، إلى حد كبير، بعدم دخول هذه المناطق، ورغم أن هذه المناطق وإن كانت تشكل فقط 18% من أراضي الضفة الغربية، فإنّها تضم قصبات المدن ومناطق الكثافة السكانية الأساسية، بما يجعل الغالبية العظمى من الفلسطينيين داخل هذه المناطق.

ورغم أنّ الإسرائيليين أنهوا حصانة هذه المناطق منذ العام 2000، وأصبحوا يدخلونها كلما شاؤوا، فإنه في غالبية الأوقات يبقى الجنود خارج هذه المنطقة، ويبقى الأمن بيد السلطة الفلسطينية هناك، وهذا الواقع ينطبق إلى حد كبير أيضاً على المنطقة (ب)، التي بموجب الاتفاقيات تخضع للسيطرة الأمنية الإسرائيلية والإدارة الفلسطينية المدنية، ولكن الجيش الإسرائيلي أيضاً لا يدخل هذه المناطق إلا لتنفيذ مهمات محددة كالاعتقال والقتل والتدمير لأهداف معينة، وهكذا أصبحت المناطق ذات الكثافة السكانية خالية تقريباً من الوجود اليومي المعروف للجيش الإسرائيلي، مما جعل عملية مواجهتهم بالحجارة والاحتجاجات الأخرى متعثرة.

أما باقي المناطق، وهي المصنفة (ج) وتمثل نحو 60% من الأراضي الفلسطينية في الضفة، فالكثافة السكانية فيها محدودة لا تساعد على انتفاضات حجارة ومواجهات.

من هنا جاءت هبّة العام الفائت كسراً لهذا الواقع عبر عدة تكتيكات، أولها الذهاب إلى القدس، حيث السيطرة الإسرائيلية الكاملة، وتوجيه ضربات هناك، وهو ما يتضمن رسالة أيضاً بأنّ المناطق التي ينسحب منها الاحتلال ولو جزئياً (كمناطق أ) يمكن أن يكون الوضع فيها أقل تحديّا، ولكن أهل تلك المناطق لن يُسلّموا ببقاء الاحتلال. كذلك وصل الشبان للحواجز العسكرية والطرق الالتفافية، وجاؤوها من بعيد، فرادى حيناً، وعبر حافلات جماعية، أحيانا.

هل هزم الشبان جغرافيا أوسلو تماماً؟ يصعب قول ذلك، فالوصول للحواجز ليس متيسرا دائماً، ويسهل معاقبة وإرهاق سائقي الحافلات المتضامنين مع الشبان، بل وُضعت قوات أمن فلسطينية أحياناً لمنع الاشتباك مع الاحتلال، كما حصل في موضوع منطقة “البالوع”، حيث الحاجز الأشهر قرب مستوطنة بيت إيل. ويمكن الإشارة إلى أن هذا الواقع الجغرافي وإن اهتز أمام قرار الشبان، فإنّه لم يسقط تماماً ولم تختف آثاره.

الواقع المالي المؤسساتي لعصر السلطة

ما عدا قيود الجغرافيا السابقة، فإن نشوء السلطة أوجد واقعا ماليا اقتصاديا، ربط عشرات آلاف الأشخاص، ومن ضمنهم من كانوا في الماضي جزءاً أساسيا من كوادر “الثورة” والمقاومة، وأصبحوا عناصر في أجهزة أمنية ومؤسسات بيروقراطية، أو حتى مع منظمات مجتمع مدني (NGOs)، وأصبحت لديهم التزامات مالية، على شكل قروض بنكية وسوى ذلك، مما صاحب تأسيس مؤسسات السلطة والشركات والبنوك، التي لم تكن موجودة في السابق، وهذا حيّد هذه الأعداد وغيرها بعيدا عن العمل المقاوم.

أوضحت الهبّة أن جيلا جديدا ينشأ، فقد مضى على اتفاقيات أوسلو نحو 22 عاما، ومعظم من نزل للشارع منتفضاً ولد بعد الاتفاقيات، ولا يرتبط بسلم الرواتب في السلطة الفلسطينية، التي تراجعت قدراتها كثيراً على التشغيل واستيعاب أشخاص جدد، فضلا عن أن تسلم مواقع في السلطة والأجهزة الأمنية لم يعد يشكل إغراء للشبان الجدد بعد حالات الاستهداف والإضعاف والإذلال، الممنهجة التي مارسها الإسرائيليون ضد هذه الأجهزة وعناصرها.

غياب الإستراتيجية

في ندوة شبابية، شارك فيها شبان قريبون أو مشاركون من الفعاليات المقاومة حينها، أجاب الشبان عن سؤال “هل يُعقل أن تذهبوا للمواجهة دون إستراتيجية واضحة؟”، بمعنى أن يذهب الشبان دون خطط أو حتى أهداف مباشرة، متسلسلة، ضمن جداول زمنية، ومطالب معلنة، كما كان الأمر عليه في انتفاضة العام 1987، عندما كانت بيانات القيادة الوطنية الموحدة وحركتي حماس والجهاد الإسلامي، تحدد مطالب معينة وترسم برنامج عمل يوميا ميدانيا يوزع الأدوار على الشعب، وكان رد الشبان أنّه لا يمكن انتظار تطوّر هذه الإستراتيجية لأن الفصائل والقيادات السياسية ليست بوارد تطوير مثل هذه الإستراتيجية، وكان رهان الشبان أنّ مثل هذه الإسترايتجية قد تُطور بالتوازي مع الفعل الميداني، ولكن هذا لم يحصل في واقع الأمر، واتضح أن دور الفصائل والقوى المنظمة لا يزال حاسماً في مرحلة ما، ولم يتطور البديل بعد لهذا الدور.

الانتماء الفصائلي

أفرز العام الفائت حالة جديدة نسبياً بالنسبة للعمل الفصائلي، فرغم أنّ جزءاً كبيرا، وربما غالبية، الشهداء والذين نشطوا في أعمال المقاومة ينتمون أو يؤيدون فصيلا أو آخر، وهذا ما تدل عليه بيانات نعي الشهداء، وحوارات مع ذويهم، وحوارات مع نشطاء في الحراك الميداني، فإن الثابت أن هؤلاء الأفراد كانوا يتحركون دون أي قرار أو توجيه فصائلي. بل إنّ محاولات الفصائل القيام ببعض النشاطات المنظمة، مثل المسيرات الاحتجاجية، لم تستقطب أعداداً كبيرة. ويمكن تفسير هذه الظاهرة من خلال أن المجتمع الفلسطيني مسيس بطبيعته، ومن خلال الإرث الكبير التاريخي للفصائل، ولحالة الاستقطاب بين هذه الفصائل، ولكن الارتباط بها بات ارتباطاً بماضٍ وشعارات عامة، في وقت أن البنى القيادية والتنظيمية لهذه الفصائل معطلة بسبب الترهل والتكلس وتقدم قيادتها في السن، وعدم التجديد، وعدم طرح برامج جديدة، وانشغالها بانقساماتها وخلافاتها.

وهكذا أوضحت هبّة العام الفائت أنّ الفصائل وإن لم تختفِ، ورغم حضورها عدديا وفي مناسبات مثل الانتخابات الجامعية، فإن قدرتها على الفعل التنظيمي محدودة. ولعل البيان الذي أصدرته شبيبة حركة فتح في جامعة بيرزيت قبل أيام، تهاجم فيه قيادة الحركة، وتحديداً الرئيس محمود عباس، بسبب مشاركته في جنازة الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيريز، وتطالبه بالاعتذار للشعب الفلسطيني، والتنحي من موقعه، هو نموذج لحالة الفجوة بين المستوى الشاب في الفصائل وقياداتها.

مجتمع الشبكات والتكنولوجيا

لعل أحد أسباب قدرة الشباب والأهالي على الاستغناء النسبي عن الفصائل والبنى السياسية المنظمة هو شبكات التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا. فعمليات الحشد والتجمع لم تكن تحتاج بيانات منشورة ومطبوعة، أو وسائل إعلام جماهيرية، أو حتى خط شعارات على الجدران، كما كان يحصل في الماضي، وهو ما كان يتطلب قدرات وإمكانيات مادية ولوجستية لا توجد للأفراد. ولكن وسائل التواصل الاجتماعي أتاحت بدائل، قليلة الثمن، ومتاحة للأفراد، ولا تحتاج لقرارات سياسية مركزية.

لقد كان لافتاً على سبيل المثال، عند دخول بيت عزاء لشهيد أو شهيدة، أن تجد أغنية للشهيد قد تم تأليفها وتلحينها وتسجيلها، فقد صارت الحواسيب الجديدة توفر فرصا لتقديم كثير من المواد الإعلامية والتعبوية والاتصالية، التي كانت تحتاج مؤسسات ومعدات لا يمتلكها الأفراد.

هناك آراء ترفض التسليم بأنّ الهبّة قد انتهت، وتبني هذا الرأي بعمليات طعن متفرقة، وحالات مواجهة مستمرة، وإن بشكل متقطع. على أنّه بغض النظر عن هذا الجدل، فإنّ الأكيد أن هبّة العام الفائت أوضحت وكسرت بعض المسلمات والمعطيات، ومن أول ما كسرته أنّ واقع التقسيم الوظائفي الجغرافي لا يمثل حاجزاً نهائياً أمام أعمال المقاومة، وأنّ الواقع البيروقراطي والمالي والأمني الناتج عن اتفاقيات أوسلو يمكن تحديه، وأنّ هناك أدوات اتصال وتكنولوجيا جديدة تعطي للأفراد ومجتمعاتهم المحلية القدرة على التعبئة والتنظيم والاتصال، ويقلل الحاجة لدعم الفصائل والقوى المنظمة. ومن هنا يمكن فهم استمرار عمليات وحالات مقاومة تتشابه مع فعاليات العام الفائت. ولكن الهبّة كشفت أيضاً أن الحاجة لقيادة مركزية، تتبنى نهجها، وتحدد أهدافا سياسية للهبّة، وتوجد تناغما بين المناطق الجغرافية المختلفة، لا يمكن الاستغناء عنها.

لقد أنجزت الهبّة وأوضحت إمكانية التغلب على عقبات كثيرة، برزت في العقدين السالفين، أثناء مواجهة الاحتلال، كما كشفت نقاطا ومتطلباتٍ لا تزال تعوز أي حراك جديد، وتطلب توفيرها لإنجاز حالة انتفاضة وحالة مقاومة ذات ديمومة وإستراتيجية.

المصدر: الجزيرة نت

إلى الأعلى